العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (1)..

كل ما يتعلق باخبار السودان اليومية من داخل وخارج الوطن

المشرف: بانه

برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (1)..

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته
السطور التالية هي الحلقة (1) من سلسلة من 16 حلقة منقولة, وهي دراسة نشر جزء منها عام 2009 في احدي صحف الخرطوم , للطلاع علي النص الاصلي للدراسة اكتب مابين القوسين التاليين (العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع ) .. مع مراعاة التشديد في الحروف التي تحتوي عليه ..علي محرك البحث , وادخل علي صفحة موقع سودان راي . هذه الدراسة تبيّن ظلم شديد وعنصرية جائرة تجاه الشعب السوداني من جراء هذه الاتفاقية . معظم الشعب السوداني لا يعلم شيئا عن تفاصيل بنود هذه الاتفاقية , وانا ادعو كل من يقرائها ان يسئل نفسه هل يرضي ذلك في بلده ؟!! , هل يرضي ذلك في السودانيين الذين لم يؤذوا اي شعب ؟!! . تذكّروا يا ابناء الكرام انّ العنصرية ليست من الاسلام .

ملحوظة :
قمت بتغيير بعض الكلمات علي النحو التالي :
الاسلاميين الي من يسمّون انفسهم بالاسلاميين ,الاخوان المسلمين الي من يسمّون انفسهم بالاخوان المسلمين , وذلك لان الاسلام برئ ممّا يفعل هولاء .

"
د.محمد جلال احمد هاشم



العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(1)


مقدّمة
هذه سلسلة مقالات نتناول فيها العلاقات السّودانيّة المصريّة، نحاول فيها تقديم صورة لخطاب مغاير للمألوف في مجال هذه العلاقة. ومع أنّ المقالات تتناول بالتّحليل الفترة التي أعقبت توقيع اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع، إلاّ أنّنا مع ذلك نتوسّع في التّقديم لها باستعراض للعلاقات في سياقها التّاريخي. ومن المتوقّع لمثل هذا الاستعراض البانورامي أن يكون عموميّاً. ولهذا تحرّينا فيه تناول ما يُعلم في هذا الأمر بالضّرورة. وقد يبدو للبعض أنّنا كما لو كنّا نسعى لتقويض أركان العلاقات بين السّودان ومصر؛ ولكن لا شيء أبعد من هذا. ما نحاوله هو نقد مبضعي لها، بغية تقويمها وإعادة بنائها بما يحفظ للشّعبين أكرم العلاقات، لا علاقة الشّقيق الأكبرBig Brother بالشّقيق الأصغر، وهو وصف قدح به أستاذنا محجوب محمّد صالح في معرض تناوله لطبيعة العلاقات بين البلدين (راجع: محجوب محمّد صالح، "العلاقات السّودانيّة المصريّة وإشكالات الإدراك المتبادل" في: أسامة الغزالي [تحرير]، العلاقات المصريّة السّودانيّة بين الماضي والحاضر والمستقبل، القاهرة: مركز البحوث والدّراسات الإستراتيجيّة، 1990، ص.ص. 141-152). وكما يقول الأمين عبد اللطيف (كان سفير السّودان في القاهرة إبّان الدّيموقراطيّة الثّالثة)، إنّ "مصر لم تحاول فهم الشّخصيّة السّودانيّة واكتفت بالصّورة التي رسمتها ولم تغيّرها مع الزّمن". فالسّودان بالنّسبة لمصر لم يعدُ تاريخيّاً الّا كونه معبراً لنهر النّيل، وبالتّالي استمدّ أهمّيّته لدوره الحيوي في مجال أمن مصر المائي؛ ولهذا لم يكتسب السّودان أيّ بعد إنساني، أي لم يشكّل السّودانيّون أيّ أهمّيّة في المخيّلة المصريّة، لا رسميّاً ولا شعبيّاً (الأمين عبد اللطيف، العلاقات السّودانيّة المصريّة ورؤية مستقبليّة، الخرطوم: مركز محمّد عمر بشير، 1986، ص.ص. 175-178). وكان هذا بالضّبط ما دفع بمحمّد عبد الرّحيم (مؤرّخ السّودان) لتدبيج الرّدود ضدّ كتاب قام بتأليفه محمّد حسين هيكل تحت عنوان عشرة أيّام في السّودان، تناول فيه السّودان بما لم يقبله السّودانيّون (محمّد عبد الرّحيم، رفع النّداء في دفع الافتراء، الخرطوم، 1953). وكان ممّا أخذه محمّد عبد الرّحيم على هيكل اعتماد الأخير على روايات أناس لم يعيشوا في السّودان غير بضع سنوات، وكانوا يُصنّفون، كما كانو يُصنِّفون أنفسهم، على أنّهم أجانب، دون أن يكلّف الكاتب نفسه مشقّة سؤال أهل البلد عن بلدهم وعن موقفهم إزاء القضايا المثارة في الكتاب؛ وكلّ هذا في عشرة أيّام غير كافية للقيام بسياحة متعجّلة في بلد قارّة. وقد علت العديد من الأصوات المشفقة من قبل سودانيّين يؤمنون ليس فقط بوحدة وادي النّيل، بل بحقّ مصر الأصيل في السّودان، وذلك تحذيراً لمصر من أن تفق السّودان جرّاء جهلها القاتل بالسّودان وبالسّودانيّين. ففي حوالي العقد الرّابع من القرن العشرين تكلّم التّيجاني يوسف بشير (مقال بعنوان: "ضرورة الوحدة بين مصر والسّودان" في محمّد عبد الحي وبكري بشير الكتيّابي، التّيجاني يوسف بشير: السّفر الأوّل: الآثار النّثريّة الكاملة، الخرطوم، 1987م، ص. 128)، تكلّم عن تجاهل مصر للسّودان من زاوية الأدب واللغة الأمر الذي يرى أنّه لعب دوراً في تيسير فقدان مصر للسّودان إثر أحداث 1924م قائلاً: "كلّما فكّرّتُ في تعليل ذلك لم أجد ما يشفع لمصر في إفلات ما كان وما لا يزال يتهيّأ لها أن تحقّق فيه أنّ السّودان قطعة من مصر يصحّ فيها ما يصحّ في مصر، ويجري على هذه ما يجري على تلك. ولا ينبغي أن نخادع أنفسنا في نقرير الحقائق، فإنّ ما حصل لم يكن إلاّ نتيجة طبيعيّة لجهل مصر بالسّودان وإغفالها بدأةَ بدءٍ توثيق العلائق الأدبيّة والرّوحيّة بينهما، حتّى استغلّ سادتنا الإنجليز جهل مصر الفاضح بنا فوطّدوا مصالحهم في السّودان وانتزعوا منه كلّ ما يدلّ على مصر، إلاّ علماً ما تكاد تحسّ له بوجود. ولو قد كان لمصر أن تصرف عنايتها بعد عام 1924م إلى العلائق الأدبيّة وتنميتها لما اتّسعت الهُوّة الفاصلة بين القطرين إلى هذا المدى". والآن بعد ما يزيد عن 70 عاماً منذ أن كتب التّيجاني يوسف بشير ذلك، لا يزال الوضع على ما عليه من تجاهل مصر للسّودان وللسّودانيّين، إلاّ فيما فيه مصلحة مصر المباشرة من حيث استغلالها لطيبة بعض السّودانيّين (وتُقرأ كلمة "طيبة" هذه على أنّها "غيبة" وهي تخريج خاص بنا يجري على وزن الكلمة الأولى في معنى الغباء). فقد طالعنا التّقي محمّد عثمان ("مصر والسّودان .. ساعتان لا تكفي"، جريدة الصّحافة، 17/2/2009م، ص. 3 ـ ولتلاحظوا غفلة تقديم اسم مصر على السّودان في العنوان، وهي غفلة لا يمكن لأيّ صحيفة مصريّة أن تتسامح فيه)، فيه نعى على مصر عدم إيلائها الاهتمام اللازم بقضايا السّودان، ومنها وضعه الحرج حاليّاً إلاّ عندما تتهدّد مصالحها بصورة مباشرة. وفي مقاله يتّكئ التّقي على بعض الأوراق المقدّمة في ندوة العلاقات المصريّة السّودانيّة بين الماضي والحاضر والمستقبل، القاهرة: مركز البحوث والدّراسات الإستراتيجيّة، 1990، والتي تعرّضت لمظاهر تجاهل مصر حكومةً وشعباً للسّودان والسّودانيّين. وفي هذا يشير عنوان مقاله لهذا التّجاهل، حيث لم يتمكّن الرّئيس المصري من تخصيص زمن أكثر من السّاعتين الخاطفتين لتسجيل زيارة خاطفة للسّودان.

وعلى هذا ستكون الفرضيّة الأساسيّة التي سوف نقوم بمناقشتها في هذه المقالات أنّ هذه النّظرة، وهذا المنهج (منهج الشّقيق الأكبر) هي التي تسود المنظور المصري، رسميّاً وشعبيّاً، في العلاقات بين البلدين. وتمتدّ الفرضيّة لتزعم بأنّ هناك سودانيّون قد تمّ تدجينهم وطنيّاً بحيث أصبح ولاؤهم الوطني لمصر بأكثر ممّا هو للسّودان. وتنتقل الفرضيّة إلى بعد آخر لتزعم بأنّ أنظمة الحكم العسكريّة والدّيكتاتوريّة في السّودان وإن كانت دائماً الأفضل لمصر، الأسوأ للسّودان، إلاّ أنّها تقوم على رصيد طبقي كبير بين المثقّفين السّودانيّين الذي يتماهى وعيهم الوطني بالوطنيّة المصريّة. وعلى هذا صارت مصر في أوضع أفضل من السّودان في تسخير العلاقات بينهما لمصلحتها وإن كان ذلك ضدّ مصالح السّودان. وبما أنّ هذا الخطّ غير الوطني لم يعد ممكناً له الاستمرار لأنّه يقوم اساساً على استغفال الشّعب السّودان، فإنّه قد آن الأوان لهدم الأسس المفهوميّة لبنيان تلك العلاقات وذلك لتشييد علاقات جديدة تكون بنّاءة بما فيه فائد الشّعبين خاصّة وشعوب المنطقة عامّة.
إذن فإلى مفاصل الحوار والنّقاش في هذه المقالات.
يتبع ...
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (1)..

مشاركة بواسطة برق خاطف »

استعراض مرحلة ما قبل اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

نهر النّيل والعلاقات الأزليّة

نتّفق مع صديقنا بركات موسى الحوّاتي (قراءة جديدة في العلاقات السّودانيّة المصريّة، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1997م) في أنّ العلاقات السّودانيّة المصريّة أزليّة ما في ذلك شكّ، وذلك لأنّها تقوم على أرضيّة صلبة وحقيقيّة، ألا وهي المجاورة؛ فضلاً عن ذلك هناك رابط مادّي آخر ألا وهو نهر النّيل الذي يشدّ القطرين بعضها لبعض. ولكن ما يقال هنا لا ينكفئ على الحالة المصريّة فقط، بل يشمل ما يزيد على العشر دول أخرى. فعلاقات السّودان مع جميع جيرانه أزليّة دونما شكّ؛ إذ ليس في مقدور السّودان أن يخلع جيرته لأيّ واحدة منهنّ، حتّى لو قطع العلاقات معها.

ومع كلّ هذا فالعلاقات السّودانيّة المصريّة لها خصوصيّة لا نجدها في أيٍّ من العلاقات الأزليّة الأخرى. هذه الخصوصيّة مردّها في رأينا إلى حقيقة تاريخيّة لا يمكن أن يغالط فيها إثنان، ألا وهي أنّ العلاقات بين السّودان ومصر ظلّت تقوم عبر التّاريخ، أي عبر السّبع ألف سنة الأخيرة، على الاحتلال، احتلال مصر للسّودان. فبخلاف السّبعة عقود في القرن السّابع قبل الميلادي، والتي تمثّل فترة حكم الأسرة الخامسة والعشرين، وذلك عندما قام السّودانيّون باحتلال مصر وحكمها، ظلّت مصر، وإلى أن نال السّودان استقلاله في عام 1956م، تحتلّ السّودان من وقتٍ لآخر، ولفترات قد تطول وقد تقصر. فاحتلال مصر للسّودان بدأ من زمن يسبق ما قيام الدّولة الفرعونيّة القديمة وعصر الأسرات (3100-2181 ق.م.) نزولاً إلى عصر الدّولة الفرعونيّة الوسيطة (2050-1552 ق.م.). إلاّ أنّ استعمار مصر بطريقة قويّة لبلاد السّودان الحالي يمكن أن يؤرّخ لها بعصر الأسرة الثّانية عشرة بدءاً من فرعونها سنوسرت الأوّل إلى سنوسرت الثّالث (1855-1874 ق.م.). كما يمكن القول بأنّ السّودان تمصّر تماماً، جرّاء الاستعمار المصري، مع بدء الدّولة الحديثة (1567-1085 ق.م.)، عندما قام أحمس (مؤسس الأسرة الثّامنة عشرة 1567-1320) بغزو، ومن ثمّ السّيطرة على، جميع بلاد النّوبة. وتعتبر الأسرة الثّامنة عشرة بأنّها الأخطر أثراً والأكثر توسّعا في بلاد النّوبة، حيث واصل ملوكّها، بدءاً بمؤسّس الدّولة مروراً بأمنحتب الثّالث، وبعده أمنحتب الرّابع (إخناتون) ثمّ توت عنخ أمون، ببناء المعابد، فضلاً عن سلسلة مراكزها العسكريّة، التّجاريّة والدينيّة التي تقع من حلفا جنوباً: بوهين، دبيرا غرب (حلفا)، عمارة غرب، صاي، صادنقا (بالسّكّوت)، صُلب، سيسبي (بالمحس)، دوكّي قيل بكرمة وكَُوّا (كوّة على الضّفة الشّرقيّة من دنقلا العرضي).
من جانبهم ظلّ حلم احتلال مصر والسّيطرة عليها عبر الاحتلال يداعب خيال الحكّام السّودانيّين منذ زمن دولة كوش (3000-2500 ق.م.)، وهو ما دفع بالدّولة المصريّة إلى ردّ الصّاع صاعين، احتلالاً واستعماراً. وقد تمخّضت كلّ تلك المحاولات السّودانيّة عن احتلال السّودان لمصر في القرن السّابع قبل الميلاد على عهد الأسرة الخامسة والعشرين، والذي استمرّ لحوالي الثّماني عقود. ثمّ استمرّ الحلم، حلم احتلال السّودان لمصر، إلى ما بعد ذلك. ففي عام 593 ق.م. (أوّل عهد إسبالتّا) تحكي لنا الأخبار بأنّ ملك كوش بصدد شنّ حملة من عاصمته صاي بشمال الصّودان ضدّ مصر، فكان أن سارعت الأخيرة لإحباط ذلك بتوجيه حملة بسامتيك من مدينة ألفنتين بأسوان. وفي زمن مصر الرّومانيّة تواصلت حملات السّودانيّين ممثّلين في مملكة مروي ضدّ نظام الحكم الرّوماني بمصر .

الاستعمار المصري الحديث للسّودان


وحتّى عندما دخل السّودان في دار الإسلام والعروبة لم تتوقّف مصر عن حلم احتلال السّودان، فكانت حملة إسماعيل باشا التي دشّنت حقبة احتلال مصر للسّودان في العصر الحديث (1821م ـ 1885م).
وقد دفع الاستعمار المصري، جرّاء ما عُرف عنه من ظلم وبطش غير إنسانيّين، الشّعب السّوداني إلى الثّورة فكانت دولة المهديّة؛ ليس ذلك فحسب، بل إنّ دولة المهديّة سعت بدورها إلى احتلال مصر وذلك عندما أنفذ عبدالله التّعايشي حملة عبد الرّحمن النّجومي في عام 1892م. بانهزام تلك الحملة شرعت مصر (تشاركها بريطانيا) في إنفاذ مشروعها التّاريخي، ألا وهو احتلالها للسّودان، والذي حدث بالفعل في عام 1899م، وبذلك بدء عهد الحكم الاستعماري المصري البريطاني، ولهذا جاءت تسميته بالاستعمار الثّنائي.
ويذهب بعض المؤرّخين من عصبة "المبرّراتيّة" لتجميل صورة الاستعمار المصري للسّودان، وذلك بعدم إطلاق تسمية "استعمار" عليه. ليس هذا فحسب، فهو ليس مجرّد "الحكم التّركي المصري"، أو "الحكم الثّنائي"، بل "الفتح التّركي المصري" عند بعضهم. ومنهم من يزعم بأنّ مصر لم تكن تملك أمر نفسها إبّان الاستعمار الثّنائي. ولكن تبقى الحقيقة في أنّ مصر تكفّلت بجميع تكاليف تلك الحملة ليس لأنّها كانت مرغمة، بل لأنّ استعمارها واحتلالها للسّودان يحقّق لها هدفاً تاريخيّاً. فبجانب تأمين تدفّق مياه النّيل عبر السّيطرة على السّودان كدولة منبع وممر، بم أصبحت مصر إبّان الاستعمار الثّنائي تطالب بتبعيّة السّودان لها إن لم يكن ذلك بفضل مشاركتها الفاعلة والنّافذة في احتلاله؟ وقد ظلّت مصر طيلة عهود التّاريخ تنظر إلى السّودان بوصفه الفِناء الخلفي لبيتها؛ وللعلم هذه ليست ألفاظنا، بل ذات الألفاظ التي استخدمها الرّئيس المصري أنور السّادات في وصف علاقة بلاده بالسّودان ونظر الحكومة المصريّة لوضع السّودان . "
انتهت الحلقة الاولي .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع(2)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته

"
(2)

مثلّث حلايب على البحر الأحمر ومثلّث سرّة شمال حلفا



كانت لمصر على الدّوام أطماعها التّوسّعيّة في السّودان. وعلى هذا ظلّت تتدخّل في الشّأن السّوداني، بدءاً من انتخابات الحكم الذّاتي عام 1953م إلى ما بعد الاستقلال. وعندما تمّ لها إعادة استعمار السّودان بالاشتراك مع بريطانيا، قامت برسم حدودها بما يسمح لها بابتلاع الإقليم النّوبي الذي يحتدّ بأسوان، وهو ما ظلّت عليه الحدود عبر التّاريخ. ولا غرو في ذلك، إذ ظلّت مصر تنظر إلى السّودان على أنّه ينبغي أن يكون تابعاً لها بنفس عقليّة فرنسا الاستعماريّة إزاء الجزائر. ويعتبر مثلّث حلايب على البحر الأحمر ومثلّث سرّة شمال حلفا نموذجاً لمخطّطات مصر التّوسّعيّة والاحتلاليّة إزاء السّودان. وفي الحقيقة ما ينطبق على أحدهما من النّاحيّة القانونيّة ينطبق على الآخر. وقد برزت مشكلة انكماش سيادة الدّوليّة السّودانيّة على مثلّث حلايب إبّان عمليّة الإحصاء السّكاني الأخير الذي أجري في عام 2008م. فقد رفضت مصر أن تسمح للسّودان بدخول مثلّث حلايب بحجّة مصريّته وعدم سودانيّته (راجع: مديحة عبدالله، "تمصير مصر لحلايب والتّعداد السّكّاني"، جريدة الأيّام، 3/7/2008م، العدد 9149). ونشيد هنا بمقالها الرّصين الذي قرع جرس الإنذار لافتاً إلى خطّة مصر في تمصير حلايب عبر سياسة الأمر الواقع، فضلاً عن مرافعتها القويّة ودحضها للحجج المصريّة.

في هذا الصّدد نورد عدّة ملاحظات في غاية الأهمّيّة. أوّلها يتعلّق بالحدود التّاريخيّة بين السّودان ومصر، والتي تشير العديد من المصادر والخرائط العثمانيّة والمصريّة وغيرها إلى أنّها كانت في خط 24 درجة في أسوان، وليس جنوبها بأيّ حال من الأحوال، وذلك حتّى تاريخ توقيع اتّفاقيّة الحكم الثّنائي عام 1899م. وثاني هذه الملاحظات يتعلّق باتّفاقيّة 1899م التي حدّدت خطّ عرض 22 درجة كحدّ إداري وليس كخطّ حدود فاصل بين البلدين. ولهذا كان في مقدور الإداريّين في كلا البلدين المستعمرَين أن يعيدوا فيه النّظر في هاتين المنطقتين باعتبار السّكّان الذين لا ترتبط معايشهم بالسّودان فحسب، بل وإحساسهم بالهويّة يشير بوضوح إلى أنّهم سودانيّون. وقبل أن ينال السّودان استقلاله قامت الدّولتان المستعمرتان (وهما مصر وبريطانيا) بإجراء انتخابات الحكم الذّاتي وتقرير المصير وقد شملت مثلّث حلايب ومثلّث سرّة على أنّهما ضمن الحدود السّياديّة للسّودان. وتكمن أهمّيّة تلك الانتخابات في أنّه لا يحقّ لمصر التّحجّج بما ورد في اتّفاقيّة الحكم الثّنائي لعام 1899م، فبمجرّد التّوقيع على اتّفاقيّة الحكم الذّاتي عام 1953م تكون اتّفاقيّة عام 1899م قد ألغيت رسميّاً. وبما أنّ مثلثّي حلايب وسرّة يردان في اتّفاقيّة الحكم الذّاتي على أنّها ضمن حدود السّودان، عليه لا عبرة بما يرد في اتّفاقيّة مجبوبة. وليس أدلّ على هذا من حقيقة أنّ سكّان مثلّث سرّة الذي تأثّروا بقيام السّدّ العالي عام 1964م قد قامت مصر نفسها بإعادة توطينهم في حلفا الجديدة، أي في السّودان وليس في مصر؛ فلو كانت فعلاً تنظر إليهم على أنّهم مصريّون لكان من المفترض أن تقوم بإعادة توطينهم في كوم أمبو شمال أسوان أسوةً بباقي النّوبيّين الذي حكم عليهم ترسيم الحدود الجائر أن يعيشوا داخل أسوار السّيادة المصريّة. ولكان جمال محمّد أحمد (وهو من قرية سرّة) عندها قد أصبح وزيراّ لخارجيّة مصر وليس السّودان. ولمن يريدون الاستزادة في هذا الخصوص، ولمن يريدون التّحقّق من هذه الخرائط، ننصحهم بمراجعة ما كتبه معاذ محمّد أحمد تنقو في كتابه الحجّة والمرجع: نزاع الحدود بين السّودان ومصر: مثلّث حلايب ونتوء وادي حلفا في ضوء القانون الدّولي، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنّشر، 2005م. ولمن ليس لهم طاقة في قراءة الكتب ننصحهم بمراجعة بحثه الوضيء: "نزاع الحدود السّوداني المصري بين التّاريخ والقانون الدّولي"، مجلّة دراسات إستراتيجيّة، العدد 10، 1997، ص.ص. 3-55.

إبّان حكومة عبدالله خليل قامت مصر بإدخال قوّاتها إلى مثلّث حلايب، فما كان من رئيس الوزراء، أي عبدالله خليل، إلاّ أن أمر الجيش بمواجهة القوّات المصريّة بوصفها قوّات غازية. عندها انسحبت مصر من مثلّث حلايب صاغرة، دون أن تفقد الأمل في إعادة احتلاله. وعندما قامت حرب 1967م ضدّ إسرائيل تمّ توقيع "اتّفاقيّة الدّفاع المشترك"، والتي كانت بدافع التّعاطف مع مصر ضدّ العدوان الإسرائيلي، سُمح للقوّات المصريّة بالدّخول إلى الأراضي السّودانيّة، ومن ضمنها مثلّث حلايب ومثلّث سرّة، تحسّباً لأيّ هجوم إسرائيلي من الخلف. وهذه من ضمن الحجج المصريّة في إبراز حقّها في هاتين المنطقتين بافتراض أنّها ومن حينها لا تزال إلى الآن تحتلّ هذين المثلّثين. وهذه حجّة مردود، ذلك لأنّ دخول القوّات المصريّة إلى السّودان وفق تلك الاتّفاقيّة لم يكن وقفاً على هاتين المنطقتين، بل تعدّاهما إلى مناطق أخرى مثل جبيت بشرق السّودان وجبل الأولياء جنوب الخرطوم. فلو أنّ الدّخول إلى تلك المناطق وفق منطوق الاتّفاقيّة يعطي مصر حقّاً مكتسباً أو أصيلاً، لأعطاها نفس الحقّ على باقي المناطق التي دخلت إليها القوّات المصريّة.

والحقيقة أنّ مصر لا تزال تحتلّ هاتين المنطقتين لا لشيء إلاّ لتناوم نواطير السّودان عن ثعالبة مصر. ليس هذا فحسب، بل قمت في النّصف الأوّل من شهر ديسمبر من عام 2008م بزيارة إلى حلفا القديمة، تفقّدتُ فيها حال حدودنا، فإذا بالقوّات المصريّة وفق قراءة جهاز تحديد المواقع العولمي (GPS) Global Positioning System، ترابط جنوب خطّ 22 درجة بعدّة كيلومترات، دع عنك مثلّث سرّة. ولكم حزّ في نفس الكثير من السّودانيّين أن يرَوا رجلاً مثل عمر محمّد الطّيّب، كان رئيساً لجهاز الأمن القومي ونائباً لرئيس الجمهوريّة في العهد المايوي يصدر كتابه بعنوان: الأمن القومي لوادي النّيل وانعكاساته في المجال العسكري، القاهرة: النّهار للطّباعة والنّشر، 1998م، فترد فيه خريطة البلدين، فإذا بالسّودان وقد تمّ تجريده من حلايب ومن مثلّث سرّة شمال حلفا. وربّما يقول البعض بأنّ هذا مفهوم طالما كان الكتاب قوام بحث تقدّم به لكلّيّة ناصر العسكريّة بمصر لنيل درجة الدّكتوراة؛ فأعجب بها من رسالة دكتوراة وزنت عنده حقوق بلده التّاريخيّة، هذا البلد الذي رفع من شأنه فإذا به مسئول أمنه الأوّل ونائب رئيس جمهوريّته لعددٍ من السّنين.

وليس حال صحافتنا بأحسن من حال ساستنا فيما يتعلّق بموضوع حلايب. فعندما رفضت السّلطات المصريّة لحكومة السّودان بإجراء التّعداد السّكّاني داخل مثلّث حلايب، سمعنا وقرأنا عجبا في الصّحف. فمثلاً في تقرير عن كتبه عثمان ميرغني في جريدة السّوداني (7/1/2008) وصف المثلّث بالمتنازع عليه بين السّودان ومصر، الأمر الذي جعل أحد الباحثين يكتب مصحّحاً ومذكّراً بسودانيّة حلايب، مقدّماً الدّليل وراء الدّليل ممّا كان ينبغي أن يكون مادّة من موادّ التّعليم في المدارس السّودانيّة (صلاح محمّد إبراهيم، "حول مثلّث حلايب"، جريدة السّوداني، 4/3/2008م). وفي جريدة الأيّام (12/3/2008م) كتب محمّد رشاد (صاحب عمود "اقتصاديّات") عن نفس الموضوع وبروح انهزاميّة لا تقلّ عن عثمان ميرغني: "تواترت الأنباء من شمال شرق السّودان عن إعاقة السّلطات المصريّة لفرق التّعداد السّكّاني أداء أعمالها بمثلّث حلايب وهو ما كان متوقّعاً [كذا!] فلم يصل البلدان لحلّ نهائي لهذا النّزاع [كذا!] الذي يطلّ برأسه بين الفينة والأخرى وكنّا قد تساءلنا إبّان فترة تبديل العملة السّودانيّة مؤخّراً إن كانت وفود بنك السّودان قد جابت المثلّث وبدّلت الدّينار السّوداني بالجنيه إلاّ أنّ أحداً لم يرد على تساؤلنا، إلاّ أنّنا نأمل أن تتفهّم السّلطات المصريّة هذا الظّرف السّوداني الدّقيق وهي قد وقّعت مع السّودان اتّفاق الحرّيّات الأربع إضافة إلى جعل مثلّث حلايب منطقة تكامل اقتصادي سوداني مصري كخطوة أولى نحو تكامل اقتصادي كامل [كذا بهذه الرّكاكة] بين جنوب الوادي وشماله في وقت يفتح فيه السّودان أبوابه للاستثمار المصري الذي تضاعف في الأعوام الأخيرة مع ترحيب بالعمالة المصريّة المتزايدة هذه الأيّام." ثمّ لا يكتفي الأستاذ رشاد بهذا، فيذهب إلى أبعد منه في خطوة لا يمكن للمصري أن يفهم منها غير قلّة حيلة السّودانيّين إزاء مخطّطات مصر لتمصير المثلّث السّودان، فضلاً عن عدم نيّتهم وانعدام قدرتهم لاجتراح أيّ موقف وطني حاسم من قبيل ذلك الذي صدع به من قبل عبدالله خليل. إذ يقول: "إنّ اكتمال التّعداد السّكّاني السّوداني للسّودانيّين بمثلّث حلايب [كذا!] له أهمّيته الاقتصاديّة إضافة لأهمّيته الانتخابيّة لانتخابات سودانيّة مصريّة تحدّد مستقبل السّودان [كذا!]". ثمّ يبلغ الانبراش درجة لا يمكن للمرء أن يحتملها، وذلك عندما يقول: "نقول هذا رغم الأنباء التي تتحدّث عن عن إجراءات مصريّة دؤوبة وحثيثة تهدف لتمصير تدرّجي للمثلّث عن طريق الإغراء الخدمي للسّكّان واستخراج شهادات ميلاد مصريّة للمواليد ونشر للأطلس المصري الذي يضمّ المثلّث بجمهوريّة مصر العربيّة وإجراءات أخرى تهدف لواقع جديد حتّى لو تطلّب الأمر استفتاء للسّكّان يختارون مصر بدلاً عن السّودان".

ولا نغادر موقعهنا هذا دون أن نُشير إلى ما صدع به القيادي بجبهة الشّرق موسى محمّد أحمد، والذي اشترط لدى لقائه للسّفير المصري بالخرطوم اعتراف مصر بسودانيّة حلايب كشرط للتّكامل بين مصر والسّودان، هذا مع أنّه استدرك قائلاً بأنّه لا يريد لموضوع حلايب أن يكون "خميرة عكننة" بين البلدين (جريدة أجراس الحرّيّة، 24/8/2008م). ومع أنّ هذا القول وحده يشهد له بالشّجاعة إزاء الخَوَر الذى يعتيري سياسيّينا في هذه المسألة بالتّحديد، إلاّ أنّ هذا الاستدراك، أثار تساؤلات عند البعض عمّا إذا كانت المحافظة على حسن العلاقات مع الدّول التي تحتلّ أراضينا أعلى قيمةً من منهاضة احتلالها للأرض . "
انتهت الحلقة (2) ..
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (3)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته
"
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(3)

مياه النّيل والعلاقات المشتركة

تمّ إبرام أوّل اتّفاق فيما يتعلّق بمياه النّيل من حيث العلاقة بين السّودان ومصر في عام 1929م، أي بين دولتين مستعمرتين للسّودان، هما مصر وبريطانيا. شملت تلك الاتّفاقيّة أيضاً دول شرق أفريقيا، والتي كانت بدورها تقع تحت الاستعمار البريطاني باستثناء إثيوبيا التي، وإن لم تكن مستعمرةً بريطانيّة، إلاّ أنّها كانت تقع تحت النّفوذ البريطاني. ألزمت تلك الاتّفاقيّة دول المنبع بألاّ تقيم أيّ منشآت على النّهر أو على منبعه دون استشارة السّودان ومصر. وعلى هذا جرت تعلية خزّان أسوان. بعد ذلك بثلاثين عاماّ، أي في عام 1959م، وعندما فكّرت مصر بإنشاء السّدّ العالي، سعت لتحقيق وضع جديد، فكانت اتّفاقيّة مياه النّيل.

بموجب هذه الاتّفاقيّة أصبحت مصر تتمتّع بنصيب الأسد في استخدام مياه النّيل (55 مليار متر مكعّب). فجانباً عن أنّ الاتّفاقيّة قد حدّدت المحاصصة بين السّودان ومصر فقط، فق جرى خصم فاقد التبخّر النّاجم عن بحيرة السّدّ العالي من مجمل مقدار المياه، ثمّ بعد ذلك تقاسمت الدّولتان بينهما ما تبقّى من مياه. لم يزد نصيب السّودان عن 18 مليار متر مكعّب، تستفيد منها مصر بما مقداره 4 مليار متر مكعّب في شكل قرض مائي. لكن المهمّ في تلك الاتّفاقيّة أنّها اعترفت بحق دول حوض النّيل، كما نصّت على ضرورة إنشاء إدارة مشتركة والتي تمخّضت الآن في شكل "مبادرة حوض النّيل".

والآن تطالب دول الحوض بحقّها، والذي قطعاً سوف يكون خصماً ممّا ناله السّودان وممّا نالته مصر. من التي تستدعي التّأمّل في هذا الصّراع أن نجد السّودان يقف مع مصر في مواجهة دول حوض النّيل اتّساقاً مع نظرة غير نقديّة مفادُها أنّ مصالح البلدين في هذا الخصوص متطابقة، وما هي كذلك. إذ ما الذي يمكن أن يجنيه السّودان من تجيير موقفه لصالح جارته مصر غير خسران باقي جيرانه المتشاطئين معه في نهر النّيل؟ ثمّ ما الذي يمكن أن تقدّمه مصر للسّودان مقابل تجيير موقفه لصالحها؟


مشروعات التّكامل بين البلدين

يكتنف مصطلح "التّكامل" الذي يُشار إليه في معرض العلاقات السّودانيّة المصريّة الكثير من الغموض إذا ما أخذناه على المستوى السّياسي. فكما يقول محجوب محمّد صالح (محجوب محمّد صالح، "العلاقات السّودانيّة المصريّة وإشكالات الإدراك المتبادل" في: أسامة الغزالي [تحرير]، العلاقات المصريّة السّودانيّة بين الماضي والحاضر والمستقبل، القاهرة: مركز البحوث والدّراسات الإستراتيجيّة، 1990)، عادةً ما تنهار أيّ مشاريع للتّكامل بمعناه الحقيقي وذلك لانعدام النّدّيّة. ففي ظلّ وضعٍ كهذا تأخذ العلاقات في أحسن حالاته منحى "توازن القوى" بدلاً من أن تأخذ منحى "توازن المصالح". وأيّ اتّفاق ينشا وفق وضعٍ كهذا يعبّر عن تسوية مجيّرة لمصالح الطّرف الأقوى (وهو مصر هنا) لا المصلحة المشتركة. فمصر تنطلق في علاقاته مع السّودان من موقف الذي له حقوق تاريخيّة، والذي يشعر بفارق القوّة المعنويّة، أي الحضاريّة، والقوّة المادّيّة القسريّة، وذلك بحكم أنّها استعمرت السّودان منذ أقدم العصور وإلى عصرنا الرّاهن. وعلى هذا فهي تأتي للتّكامل لتأخذ لا لتعطي. أمّا السّودان، والذي عادةً ما يكون خاضعاً لنظام خكمٍ عسكريٍّ ديكتاتوري، فينظر للتّكامل على أنّه من قبيل إيلاف الدّولة المصريّة القويّة بما يضمن مصلحة النّظام الحاكم، وليس بالضّرورة مصلحة الشّعب السّوداني. ولهذا عادةً ما يُترك المراد تحديداً بالتّكامل للسّياق الذي يتمّ تناول الموضوع فيه، وذلك لأنّ الغايات النّهائيّة من التّكامل وفق الأجندة المصريّة هو ذوبان السّودان في مصر، أو ابتلاع مصر للسّودان بمباركة عدد معتبر من الصّفوة السّودانيّة. ولهذا لاحظ أستاذنا محجوب محمّد صالح قدرة مصر في التّعامل مع الأنظمة العسكريّة الدّيكتاتوريّة بطلاقة فيما يتعلّق بالتّكامل، بينما تتعسّر محاولات مصر التّكامليّة مع أنظمة الحكم الدموقراطي في السّودان، وهي الأنظمة التي يُعوّل على تمثيلها للشّعب السّوداني. ولهذا السّبب نفسه يقول محجوب محمّد صالح بأنّ إعلان السّودان لاستقلاله كان موقفاً مفاجئاً ومخيّباً لمصر لم تتمكّن من ابتلاعه حتّى الآن. فقد كان بمثابة ضربة قاصمة لأطماع مصر التّوسّعيّة.

ولكن، ناحية عمليّة، نلاحظ أنّ مصطلح "التّكامل" عادة ما كان يُطرح في سياق مشاريع اقتصاديّة بعينها، كيفما كان سوء ظنّ بعض السّودانيّن بأهداف مصر السّياسيّة، الخفيّة والمعلنة، من التّكامل. كانت هذه المشاريع تقوم في عمقها التّنفيذي على تدخّل اقتصادي مصري مباشر في السّودان، أي أن تقوم مصر بتمويل إقامة مشاريع اقتصاديّة بعينها، فضلاً عن توفير العمالة والطّاقم الإداري اللازم لها مع وجود ديكوري للسّودان في قمّة الهرم الإداري، وقاعدة عمالة رخيصة في قاعدة الهرم. جاءت أوّل اتّفاقيّة تهدف إلى دفع العلاقات بين السّودان ومصر نحو التّكامل في عام 1971م (إبّان الحكم المايوي العسكري الدّيكتاتوري)، إلاّ أنّه لم تنجم عنها أيّ مؤسّسات تنفيذيّة. ثمّ جاءت الاتّفاقيّة المسمّاة "منهاج العمل السّياسي والتّكامل الاقتصادي بين السّودان ومصر"، والتي وقّعت في 11/2/1982م.

هذه هي الاتّفاقيّة التي بموجبها قامت المشاريع التّالية: مشروع قناة جونقلي، مشروع التّكامل الزّراعي بالرّوصيرص، مشروع التّكامل الإقليمي بين محافظة وادي ومحافظة أسوان، حيث سُمح بالانتقال دون تأشيرات لساكني الإقليمّين، ثمّ هناك بعض المشاريع المتعلّقة بالمياه الجوفيّة، والتي قصدت مصر من ورائها حفر أكبر عدد من هذه الآبار بما من شأنه، ظاهريّاً، القضاء على العطش بنجوع وأرياف السّودان، وحقيقيّاً توفير استخدام السّودانيّين لمياه النّيل بما يعود بالفائدة لمصر. في عام 1985م قامت مصر بتعليق هذه الاتّفاقيّة عند انهيار النّظام المايوي عبر ثورة أبريل الشّعبيّة وما تلا ذلك من قيام نظام حكم ديموقراطي. في عام 1987م قامت حكومة الصّادق المهدي المنتخبة ديموقراطيّاً بتوقيع الاتّفاقيّة التي عُرفت باسم "ميثاق الإخاء" مع مصر، والتي لم تكن أكثر من التّلاعب بالألفاظ والمصطلحات على طريقة الصّادق المهدي في التّخلّص من المآزق، دونما أيّ مردودات واقعيّة وفعليّة. وقد قبلت مصر بتوقيع تلك الاتّفاقيّة مع السّودان بغية الحفاظ على شعرة معاوية ريثما يعيدون الكرّة عند أوّل نظام حكم عسكري يطيح بالحكم الدّيموقراطي، وقد فعلوا حسبما سيرد أدناه.
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (3)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

لكلّ هذا، وفي ظلّ غموض وضبابيّة ما تعنيه كلمة "تكامل" على المستوى السّياسي (وهو المعوّل عليه طالما أنّ القرار في أساسه سياسي)، وجب تناول الموضوع في إطاره النّظري، أي المناظير التي من خلالها ينظر السّوادنيّون للتّكامل والمناظير التي من خلالها ينظر المصريّون للتّكامل. ولنبدأ بالمنظور المصري، ذلك لأنّ التّكامل فيما وردت به التّجارب لا يعدو كونها تدخّلاً مصريّاً في السّودان. سوف نعتمد في استعراضنا للمنظور المصري على ما قاله أسامة غيث (راجع: أسامة غيث، "التّعاون والتّكامل المصري السّوداني: كحدّدات الماضي، ووقائع الحاضر، وقيود الرّؤية المستقبليّة، في: أسامة الغزالي [تحرير]، العلاقات المصريّة السّودانيّة بين الماضي والحاضر والمستقبل، القاهرة: مركز البحوث والدّراسات الإستراتيجيّة، 1990، ص.ص. 249-256)، إذ يورد أربعة سيناريوهات في إطارها تدور العلاقات التّكامليّة بين السّودان ومصر، ثلاثة منها لا تدفع للتّفاؤل، وبالتّالي لا يبقى غير سيناريو واحد هو الذي يمكن أن يدفع [يدفع من؟] للتّفاؤل. والتّساؤل الذي أوردناه بين حاصرتين على قدر كبير من الأهمّيّة، فلينظر فيه النّاظرون!

يبدأ أسامة غيث باستعراض السّيناريوهات الثّلاثة الأولى، وهي التي لا تدفع إلى التّفاؤل. السّيناريو الأوّل منه للتّكامل المصري السّوداني يدور في إطار التّكامل الاقتصادي العربي، والذي بدوره لا يزيد (البيّنات مأخوذة في ثمانينات القرن المنصري) عن 4% من حجم تجارة الدّول العربيّة على المستوى العالمي؛ وبالتّالي وحجم معاملات اقتصاديّة بهذا القدر الضّئيل ليس ممّا يمكن أن يدفع [بمن؟] إلى التّفاؤل. السّيناريو الثّاني للتّكامل المصري السّوداني يدور في إطار التّكامل التّجاري الأفريقي، والذي ليس بأفضل ممّا عليه الحال في الفلك العربي؛ وعلى هذا فهو لا يدفع إلى التّفاؤل. السّيناريو الثّالث للتّكامل المصري السّوداني يدور في إطار عناصر التّنافر والتّضاد الكامنة في بنية المجتمعين المصري من جهة والسّوداني من جهة أخرى؛ وهذا التّنافر لا يدفع إلى التّغاؤل ذلك لأنّه في المرجّح قد يدفع بالدّولتين إلى البحث عن شركاء تكامليّين آخرين. ولهذا يعوّل أسامة غيث على السّيناريو الرّابع، أو ما يسمّيه بالتّكامل الإيجابي، وهو مالسّيناريو الثّالث يدور أيضاً في الإطار المصري السّوداني. تٌرى ما هي ملامح هذا التّكامل الإيجابي الذي من شأنه أن يتجاوز المعوّقات البنيويّة القائمة على الاختلاف والتّنافر بين الشّعبين؟ لا توجد أيّ تفاصيل يمكن من خلالها أن نتلمّس الإجابة على هذا السّؤال. فطبيعة هذا التّكامل الإيجابي كما وردت عند أسامة غيث، وكما ترد عند الكثير من السّياسيّين والباحثين المصريّين النّاشطين في مجال المشاريع التّكامليّة بين السّودان ومصر، غير واضحة بالمرّة، ذلك لأنّها مغلّفة بورق الكلام بطريقة تنبيء بأنّ التّمويه والتّعمية عمليّة مقصودة في ذاتها. فالبرّغم من تحذير أسامة غيث من أن يقوم هذا السّيناريو حسابات التّكاليف والمغانم، إلاّ أنّ ما يمكن أن نخرج به من بين سطور اللغة الإنشائيّة يقودنا إلى شيء شبيه بما اشتملت عليه اتّفاقيّة الحرّيّات الأربعة الموقّعة بين السّودان ومصر في الخامس من أبريل عام 2004م، أي قبل يوم واحد من الذّكرى التّاسعة عشرة لثورة أبريل 1985م، وفق العنوان التّالي بالصّفحة الأولى: السّودان ومصر يوقّعان اتّفاقيّة الحريّات الأربع (جريدة الصّحافة، عدد 3897، بتاريخ الإثنين 15 صفر 1425هـ الموافق 5 أبريل 2004م)، والتي أعطت مصر كلّ شيء بينما لم تعطِ السّودان غير التّبعيّة، وذلك حسبما يرد عنها الحديث لاحقاً. ولكن لا بأس من أن نلاحظ أنّ ما أورده أسامة غيث كان في 1990م والعلاقات بين ثورة الإنقاذ والنّظام المصري على أسوأ ما يكون؛ بينما لم يتجسّد السّيناريو الرّابع في شكل اتّفاقيّة إلاّ بعد ذلك بأربعة عشر عاماً والعلاقات بين نظامي الحكم في البلدين كأحسن ما يكون.

الآن دعونا نستعرض المنظور السّوداني للعلاقات بين السّودان ومصر فيما يتعلّق بالتّكامل، كيفما كان المقصود به. ونُشير إلى قضيّة جوهريّة في هذا الشّأن؛ فبينما تملك مصر رؤية متماسكة إزاء ماضي وراهن ومستقبل علاقاتها بالسّودان، نلاحظ أنّ السّودان لا يملك شيئاً كهذا. فالرّؤية السّودانيّة عبارة عن متغيّر دالّته أنظمة الحكم وأهواؤها إن طيشاً أم رشداً. وليس أدلّ على ذلك من تقديم اسم مصر على السّودان في حال الإشارة إلى العلاقات بينهما (العلاقات المصريّة السّودانيّة) بدلاً عن (العلاقات السّودانيّة المصريّة) دونما منهجيّة أو رويّة. فالبراءة في التّعامل مع أشراك اللغة يُنبيء عن غرارة فكريّة ماحقة لن تودي بصاحبها إلاّ إلى التّهلكة والضّياع. وعليه، سوف نعتمد هنا رؤية بعينها تعبّر عن نظام ثورة الإنقاذ، وفقما ورد عن أحد رموزها العاملين بالسّلك الدّبلوماسي والأكاديمي، وهو خالد فتح الرّحمن (راجع: خالد فتح الرّحمن، "العلاقات المصريّة السّودانيّة ضمن إطار وادي النّيل، مجلّة دراسات إستراتيجيّة، العدد 5، 1996م، ص. 7). يقدّم خالد فتح الرّحمن ثلاثة مقتربات للعلاقات السّودانيّة المصريّة، ونستعرضها من الأخير: المقترب الثّالث هو المقترب التّنسيقي ويشمل دول حوض النّيل؛ ويحمل المقترب الثّاني اسم المقترب التّكاملي ويشمل السّودان وإثيوبيا ومصر؛ أمّا المقترب الأوّل (البرنجي) فهو المقترب الوحدوي (يا ساتر!) والذي يضمّ السّودان ومصر وفق الهويّة العربيّة الإسلاميّة. هنا يفقد مصطلح التّكامل دلالاته السّودانيّة المصريّة ليشمل ما هو أوسع منها؛ وهذا جانب في أزمة دلالة المصطلح.

فإذا أعدنا قراءة ما يقوله خالد فتح الرّحمن مع ما قال به محجوب محمّد صالح أعلاه بخصوص انعدام النّدّية بين البلدين بما يمكن أن يتيح تكاملاً بنّاءً، خرجنا إلى أنّ الوحدة التي ينادي بها خالد فتح الرّحمن لا تعدو كونها اندماجاً للشّعب السّوداني في الشّعب المصري، أو سيطرة الدّولة المصريّة على الأوضاع في السّودان. ثمّ إذا أعدنا قراءة كلّ هذا على ضوء ما قال به أسامة غيث بخصوص عوامل التّنافر والتّضاد بين الشّعبين، إزاء تكاملٍ إيجابي غير واضح المعالم، تمكّنّا من أن نخلص إلى أنّ السّيناريو الرّابع الذي غلّفه لنا الأخير بورق الكلام لا يعدو كونه نفس المقترب الأوّل الذي ينادي به خالد فتح الرّحمن. لكن أين دلالة عوامل التّنافر والاختلاف في كلّ هذا؟ إنّ دلالتها تكمن في انحصار هذه الوحدة الاندماجيّة، أو السّيطرة المصريّة، على شمال السّودان النّيلي دونما عداه من شعوب بادية التّأفرق لوناً ولغةً. ولكن ماذا عن النّوبيّين بأقصى شمال السّودان؟ أوليسوا أفارقة لوناً ولغةً؟ ولكن كم بقي منهم هناك، وكم هاجر منهم إلى ضواحي وأقاصي المعمورة؟ فلم لا يتبع الأقلّون منهم الأكثرين؟

وهنا نختم بسؤال غير بريء: هل كان كلّ هذا تخطيطاً مصريّاً وشركاً نصبوه فوقع فيه ساسةُ السّودان وأعينُهم مفتوحة، أم كان شوقاً سودانيّاً إزاء مصر المؤمّنة سعَوا إليه بأيديهم وأقدامهم؟

وفي الحقيقة لم تزد استثمارات مصر المنفّذة في السّودان، وحتّى عام 2008م، عن 10% من الحجم المخطّط له، وذلك بسبب إحجام المستثمر المصري (أنور شمبال، جريدة السّوداني، 29/3/2008، العدد 854، صفحة 4). ففي إطار التّحضير للملتقى الاستثماري السّوداني المصري الذي انعقد بالخرطوم يوم 1/4/2008م "أجمع خبراء اقتصاديّون وأهل اختصاص أن حجم التّعاون الاقتصادي السّوداني المصري لم يرتقِ إلى مستوى العلاقة الأزليّة بين شعبي البلدين خاصّة وأنّ هناك اتّفاقاً موقّعاً بين البلدين حول الحرّيّات الأربع (التّنقّل، الإقامة، التّملّك، والعمل)، مبدين الأمل أن يكسر القطاع الخاص في البلدين ورجال أعمال حواجز السّياسة والسّياسيّين وتأسيس شركات اقتصاديّة متينة، تقوى على جميع العواصف والدّخول في استثمارات حيثما وجدت الميزة النّسبيّة في أيٍّ من البلدين". ونلاحظ هنا إحجام رأس المال المصري تحديداً عن القيام بأيّ نشاط في السّودان، ورأس المال، على ما يقال عنه من جشع وطمع، يقال عنه أيضاً أنّه جبان، لا يقدم على خطوة ما لم يضمن النّتائج. أمّا عن رأس المال السّوداني ومسألة دخوله في عمليّات استثماريّة في مصر، فحديث نظري الغرض منه الموازنة السّياسيّة الشّفاهيّة فيما يتعلّق باتّفاقيّة الحرّيّات الأربع. ومع كلّ هذا، تدفّقت أفواج إثر أفواج من العمالة المصريّة إلى السّودان، حتّى فاق العدد، حسب بعض التّقديرات، الثّلاثة مليون مصري في فترة لا تزيد عن الثّلاث سنوات. فلماذا؟ "
انتهت الحلقة (3) .
صورة العضو الرمزية
المصرداني
مشاركات: 95
اشترك في: الأربعاء 2008.4.9 1:07 pm
مكان: القاهرة
اتصال:

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (3)

مشاركة بواسطة المصرداني »

بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزى البرق وأعزائي نساء ورجال الغد

أولا تحية واجبة
ثانيا ليكن معلوما وبأختصار شديد أن العلاقات المصرية السودانية ماتت تماما مع موت عظيم مصر جمال عبد الناصر رحمة الله عليه
وما يجرى هذه الأيام ومنذ استيلاء فهلوية مصر علي الحكم ماهو إلا نصب وخيانة وإستهبال يطلق عليه في العرف المصرى شطارة وفهلوة وخفة دم

أما ما يثير الحيرة والربكة فهو تهافت المؤسسة السياسية في السودان علي علاقة لم ولن ينتج عنها سوى الأذى للسودان وأهله
أنا ولدت وقضيت عمرى في مصر وعاصرت التغير في العلاقة المصرية مع السودان وكيف أنها علاقة أصبحت قائمة فقط علي المصلحة المصرية فقط وما هرولة المصريون إلي دولة الجنوب الجديدة إلا وهو أحدث دليل علي هذا

دأب السودان منذ عهود التعامل مع هؤلاء الأقوام علي الحفاظ علي التعهدات والأمانة
وما كان من أتفاقية إلا وقام السودان بتنفيذ بنودها وعلي الفور أما المصريون .... ومشهور عنهم بيع الكلام .... فالمماطلة دينهم

نصيحة "إذا صافحت مصرى فأحرص علي عد أصابعك بعد المصافحة"
وللحديث بقية :Sudan:
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (3)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

شكرا علي مرورك .
يجب كشف الحقيقة لهذا الشعب , لان هنالك مشروع احتلالي مصري للسودان .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (4)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته
السطور التالية هي الحلقة (4) .
"
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(4)

مصر وديموقراطيّات السّودان

كانت مصر، ولا تزال، تقف دائماً بالمرصاد لأيّ نظام حكمٍ ديموقراطي، مفضّلةً بذلك الأنظمة العسكريّة، ولا غرو. فبينما كانت أنظمة الحكم العسكريّة الدّيكتاتوريّة هي الأسوأ للسّودان، كانت الأفضل دائماً لمصر، حيث يسهل التّعامل معها لتمرير سياسات مصر التّوسّعيّة. فمن بين أسباب تسليم عبدالله خليل الحكم لكبار العسكريّين، تخوّفه من صغار الضّبّاط الذين كانت مصر تغذّي أحلامهم ليقوموا بما قام به عبد النّاصر. وعندما قامت ثورة أكتوبر في عام 1964م، سخر منها النّظام المصري ممثّلاً في وزير إعلامها محمّد حسنين هيكل، الذي تهكّم من الشّعب السّوداني. وقد خرجت جماهير الشّعب تعبّر عن غضبها من هذه الإساءات المجّانيّة، فكان أن اعتذرت مصر كما هو متوقّع دائماً. فهي كما لو كانت تتعامل مع السّودانيّين وفق المثل الذي يقول "الغشيم اضربو واعتذر ليهو". وبالفعل قام انقلاب مايو 1969م، وهو انقلاب تحرّى انقلاب 1952م المصري بأسلوب وقع الحافر على الحافر. وليس أدلّ على ذلك من تبنّيه لنفس نظام الحكم الشّمولي القمعي وللنّظام الاشتراكي الممسوخ، بما في ذلك شعارات وحدة، اشتراكيّة ... إلخ، ثمّ باختطاط نظام تعليمي مأخوذ منها تقليداً ومحاكاةً أقرب إلى روح القَرَدَة وأبعد ما تكون من أصالة العلم. وبالتّالي كان من الطّبيعي أن يسعى نظام مايو إلى التّماهي والذّوبان في مصر عبر الاتّحاد معها، ذلك الاتّحاد الكسيح الذي شاركت فيه ليبيا، ولاحقاً سوريا.

في أبريل في عام 1985م قام الشّعب السّوداني بتفجير ثورته الثّالثة، وهي الثّورة الشّعبيّة التي هدّت أركان نظام ديكتاتوري فاسد جثم على صدر الشّعب لستّة عشر عاماً عجافا. وأقلّ ما يمكن أن يقول التّاريخ عن نظام مايو في باب العلاقة مع مصر إنّه كان أقرب إلى العمالة ورهن الإرادة الوطنيّة السّودانيّة. ولهذا من المنطقي أن يتوقّع السّودانيّون من مصر عدم التّرحيب بثورتهم الشّعبيّة. لكن الحقيقة التي يعلم بها الكثيرون هي أنّ مصر لا يمكن أن ترحّب بأيّ ثورة شعبيّة في السّودان بها يبرز السّودانيّون كمعلّمين ثوريّين للشّعوب المجاورة، ومنها شعب مصر المغلوب على أمره لما يزيد عن السّبع ألف سنة، إذ سلخ التّاريخ وهو يعيش تحت نير أشهر نظام مركزي تسلّطي. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ ثورات السّودان الشّعبيّة عادةً ما يتمخّض عنها نظام حكم ديموقراطي، أمكننا هذا من أن نتخيّل مدى عدم ترحيب مصر بثورات السّودانيّين التي تحيل حكم الأنظمة العسكريّة إلى عهنٍ منفوش.


الإنقاذ ومحاولة اغتيال حسني مبارك

في عام 1989م وقع انقلاب يونيو الذي أسّس لحكم ثورة الإنقاذ التي رادها وقادها من يسمّون انفسهم بالإسلاميّين المنحدرون من قمقم حركة من يسمّون انفسهم بالإخوان المسلمين بالسّودان والتي ظلّ يرأسها حسن التّرابي لعقود. جرى ذلك الانقلاب ضدّ نظام حكم ديموقراطي مهزوز، كما هو العهد بديموقراطيّاتنا التي تفوز فيها البيوتات الطّائفيّة بالأغلبيّة، بالإضافة إلى التّردّد البنيوي في شخصيّة الصّادق المهدي وفشله الذّريع. وبالطّبع كانت مصر أوّل دولة تعترف بالانقلاب حتّى من قبل أن تتبيّن حقيقة من قاموا به. وقد اندهش النّاس لذلك؛ فالانقلابيّون، فيما كان يعلم به أيّ فرد من الشّعب السّوداني، كانوا من حركة الإخوان المسلمين. فكيف لمصر أن تؤيّد من يسمّون انفسهم بالإخوان المسلمين؟ ولكن زال العجب عندما علموا بأنّ مصر كانت حينها تخطّط لانقلاب عسكري يُطيح بالحكم الدّيموقراطي بالسّودان. وعندما عصفت الموسيقى العسكريّة ببرامج الصّباح في يوم الجمعة الحزين ذلك من يوم 30 يونيو 1989م، ذهب الظّنّ، ظنّ السّاذج، بالنّظام المصري إلى أنّ ذلك هو انقلابها ضدّ الحكم الديموقراطي الذي كان ينعم بشرِّه وخيره الشّعب السّوداني.

ولكن إن هي إلاّ شهور معدودات حتّى عادت مصر لعادتها وناجزت نظام الإنقاذ العداء. وقد فتحت مصر أبوابها للمعارضة ولجموع الهاربين من نير الدّيكتاتوريّة التي باشر بها من يسمون انفسهم بالإسلاميّين شعبَهم الصّابر المغلوب على أمره كما لو كانوا يحملون له الضّغينة والرّغبة في الانتقام. إذن فقد فتحت مصر أبوابها من باب الكيد للنّظام الإسلامي بالسّودان، ولأسباب أخرى سوف نفصّل فيها لاحقاً. وما كان لمن يسمّون انفسهم بالإسلاميّين في غمرة نشوتهم بقيام ما ظنوه دولة الحقّ والإيمان وصدق المولى لعهده لهم ألاّ يهتبلوا فرصة هزّ أركان دولة الفرعون إذ ناجزتهم العداء من تلقاء نفسها. وبالفعل بادلوها عداءً بعداء، ومؤامرةً بأخرى تفوق سوء الظّنّ. فقد قرّروا بدء إصلاح العالم بمصر، فسعوا إلى تغيير نظام الحكم بها لا استقواءً بإرادة الشّعب المصري، بل باتّباع أسلوب الحشّاشين، أي الاغتيال. ولكن ليس قبل أن تطفح قضيّة حلايب مرّة أخرى إلى السّطح. فقد انقضت السّنوات الثّلاث الأولى من تسعينات القرن العشرين وحكومة الخرطوم تتلاعب بورقة تحرير حلايب. ليس ذلك فحسب، بل استنفرت قوّاتها المسلّحة وقوّات الدّفاع الشّعبي لتفويج الجيوش بغية تحرير مثلّث حلايب من نير الاحتلال المصري وذلك ضمن لوثة تفويج المجاهدين والدّبابين لتحرير جنوب السّودان.

في 16/6/1995م تعرّض الرّئيس المصري إلى محاولة اغتيال كادت أن تنجح بالعاصمة الإثيوبيّة أديس أبابا، وذلك عندما حطّت بها طائرته للمشاركة في مؤتمر القمّة الأفريقيّة. بمجرّد عودته للقاهرة اتّهم الرّئيس المصري نظام الحكم في السّودان بأنّه هو الذي دبّر هذه المحاولة. وفي الحقيقة لم يفعل نظام الحكم بالسّودان أيّ شيء بخلاف اتّباعه لنموذج مصر في تعاملها مع السّودان، ألا وهو نموذج التّآمر بغية تغيير نظام الحكم بما يخدم أغراضها. وعليه، مع كامل رفضنا للتّدخّل في شئون الغير، لا نملك أيّ تعاطف مع النّظام المصري في رفضه للأسلوب الذي اتّبعه معه من يسمّون انفسهم بالإسلاميّين بالسّودان.


العلاقات السّودانيّة المصريّة: من سيّء إلى أحسن

ما كان يمكن للعلاقات بين البلدين أن تسوء إلى أبعد ممّا وصلت إليه في أعقاب اتّهام مصر للسّودان بتدبير محاولة الاغتيال. وقد ساءت بالفعل، ولكن دون أن تبتهل مصر تلك الفرصة لتضييق الخناق على الحكم الإسلامي بالخرطوم. فلماذا ياتُرى، مع أنّه كانت هناك أكثر من دلالة تُشير إلى تورّط نظام الخرطوم؟ يقول محمود عابدين صالح (العلاقات السّودانيّة المصريّة وآفاق تطوّرها، 2004م، ص.ص. 273-4): "في كافّة الأحوال لم يكن من الصّواب أن توقع الحكومة السّودانيّة نفسها في دائرة الاتّهام أو الشّكّ من قريب أو بعيد بتلك المؤامرة التي استهدفت حياة الرّئيس المصري حسني مبارك. كما إنّ التّعامل بشكل أو بآخر لعناصر محسوبة على نظام الإنقاذ دون علم الأجهزة الرّسميّة العليا أمر يحتاج مراجعة ومحاسبة رادعة لنلك العناصر والتي اتّخذت صلاحيّاتها الدّستوريّة بالتّستّر على المشاركة أو التّدبير أو التّدعيم بأيّ صورة لنلك المؤامرة، ممّا يستدعي إبعادها عن أيّ مناصب دستوريّة مستقبلاً حتّى لا تكرّر المأساة والتي مرّت بدون عقوبة ...". إذن فقد كان هناك ما يستدعي العقوبة الرّادعة حتّى لا تتكرّر المأساة. ومع هذا لم تحرّك مصر ساكناً. فلماذا؟ حتّى عندما ظهرت تصريحات التّرابي واعترافاته بتورّط نظام الإنقاذ في مؤامرة اغتيال حسني مبارك، واصلت مصر على سكوتها وكأنّ الأمر لا يعنيها، وهي التي ملأت الأرض ضجيجاً إبّان الأحداث في يونيو من عام 1995م. فلماذا يا تُراها فعلت ذلك؟

رفضت مصر مجاراة العالم الغربي، ومن خلفه مجلس الأمن، في استعداده لتوقيع أقصى العقوبات بنظام الخرطوم لتورّطه في مؤامرة اغتيال رئيس مصر، مفضّلةً بدلاً عن ذلك اتّباع سياسة الاحتواء، إيقاناً منها بأنّ هذا الشّطط في معاداتها يكشف عن سذاجة ماحقة، فضلاً عن ضعف مريع كان يعاني منه النّظام الحاكم بالخرطوم، وربّما لا يزال. هذه هي النّقاط التي عملت مصر على الاستفادة منها في تحقيق أطماعها التّوسّعيّة بالسّودان. فالسّودان كان حينها يعاني من عزلة مستغلقة، كما كان حكّامه يعالجون الحكم بمزيج من الغرارة والعنجهيّة. وكان كلّما وقع القائمون بأمر البلاد في البطر بالحكم والاستكبار على شعبهم المغلوب، وكلّما غرقوا في وحل الفساد، كلّما كانوا أكثر استعداداً لتقديم التّنازلات للقوى الخارجيّة، وأوّلها مصر. وهكذا ما إن أهلّت الألفيّة الثّالثة حتّى وبدأت رياح التّغيير تهبّ عاتية، وقويّة من تلقاء المؤثّرات الخارجيّة .
يتبع..
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (4)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

خطاب إعلامي جديد

شهد عام 2003م بداية تدشين تحسين العلاقات بين الإخوة الأعداء، حكومتي السّودان ومصر، بصورة جادّة وقويّة. وفي الحقِّ، كأن حكم المولى الرّحيم ألاّ ينصلح الحال بين النّظام الحاكم بمصر ونظيره السّوداني إلاّ وتنفلق حبّةُ ذلك عن شرٍّ مستطير لا يقع رُزؤه أوّل ما يقع إلاّ على السّودانيّين. فقد أوردت جريدة الرّأي العام [عدد 2347، الخميس 13 محرّم 1425هـ الموافق 4 مارس 2004]، وبالتّرتيب مع جريدة الأهرام (أي أن يُنشر المقال المعني متزامناً في الصّحيفتين) مقالاً خبريّاً لمحمود مراد (وهو مصري ولنتذكّر اسمه لأنّنا سوف نتوقّف عنده فيما بعد) بعنوان: "حوار مع وزير الإعلام السّوداني: الزّهاوي إبراهيم مالك: خطاب إعلامي مصري سوداني جديد لتعميق التّكامل". ورد في المقال الخبري ما يلي:" قال الزّهاوي مالك وزير الإعلام والاتّصالات في السّودان إنّ زيارته التي تمّت إلى القاهرة منذ أيّام كانت مثمرة جدّاً وقد التقى خلالها بالدّكتور عاطف عبيد رئيس مجلس الوزراء، والسّيّد صفوت الشّريف وزير الإعلام الأمين العام للحزب الوطني، والسّيّد أحمد ماهر وزير الخارجيّة، وعدد من المسئولين، كما التقى بالسّيّد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدّول العربيّة، وزار المؤسّسات الصّحفيّة وهيئة الاستعلامات ومدينة الإنتاج الإعلامي، وأكّد أنّه قد تمّ الاتّفاق مع المسئولين المصريّين على خطاب إعلامي جديد، مشترك بين مصر والسّودان، لترسيخ وتعميق فكرة التّكامل بين البلدين".

إذن فكلّ هؤلاء المسئولين، بدءاً من رئيس مجلس الوزراء انتهاءً بالأمين العام لجامعة الدّول العربيّة، لإرساء خطاب إعلامي جديد بين مصر والسّودان، وذلك تكريساً للتّكامل بين البلدين بما يعود بالفائدة لكلا الشّعبين. ويواصل المقال: "وقال الوزير في حوار خاص مع الأهرام إنّ نتائج الاتّفاقات التي تمّت سيبدأ تنفيذها خلال أيّام ومنها تدريب الكوادر الإعلاميّة السّودانيّة من الصّحافة والإذاعة والتّلفزيون بكافّة أفرعها في القاهرة حيث تتوافر الإمكانات الكبيرة والخبرات البشريّة والتّقنيّة الحديثة سواء في المؤسّسات الصّحفيّة والإعلاميّة أو في الأكاديميّات والمعاهد العلميّة. كذلك تمّ الاتّفاق على تدعيم أكاديميّة السّودان لعلوم الاتّصال بخبراء إعلاميّين مصريّين عن طريق المنتدى المصري السّوداني الذي يُعدّ هو الآخر إنجازاً مهمّاً، إذ تمّ إنشاء المنتدى ليضمّ خبراء وشخصيّات مهتمّين بالشّأن السّوداني ليكون آلية غير حكوميّة للتّكامل وتحقيق أهدافه". ثمّ يذهب المقال الخبري إلى إيراد معلومة تنسيق قيام سلسلة ندوات مشتركة بين الأهرام والمنتدى المصري السّوداني.

ممّا يلفت نظرنا في هذا المقال الخبري، الذي كُتب أصلاً لجريدة الأهرام القاهريّة، ثمّ نُشر متزامناً في جريدة الرّأي العام السّودانيّة بترتيب مع الأولى، أنّه يُشير إلى ما يسمّى (المنتدى المصري السّوداني) الذي يضمّ خبراء وشخصيّات مهتمّة بالشّأن السّوداني، ممّا يعني أن هؤلاء الخبراء ليسوا سودانيّين بل مصريين ترجيحاً. كما إنّ هذا المنتدى سيقدّم العون للحكومة (المصريّة طبعاً) لجهة إكمال مشاريع التّكامل ـ وهي مشاريع لا يفصح عنها المقال، بالرّغم من الإشارة إليها غمزاً ولمزاً. ثمّ سيقوم هذا المنتدى بالتّنسيق مع الأهرام بإجراء العديد من حلقات التّدارس والنّقاش في شئون سودانيّة. ومع غرابة كلّ هذا الأجندة التي يفصح عنها هذا المقال واشتماله على أمور جديرة بالتّعليق استفساراً و/أو استنكاراً، نجد الأغرب أن يُذكر جميع هذا في سياق حديثٍ منسوب لوزير سوداني. ثمّ أغرب من كلّ هذا أن يُنشر مثل هذا القول النُّكر في صحيفة سودانيّة. ومصدر تعجّبنا يكمن في أنّ هذا المقال الخبري (ولاحظ تسميتنا له)، مع ما فيه من أعاجيب، تلفُّ به إشكاليّة متعلّقة بالذّكاء المهني. فإمّا أن يكون كاتبه ممّن عازهم الذّكاء دماغيّا ومهنيّاً، أو أنّه لم يتحرّ سبك مقاله لاستهوانه بقرّائه السّودانيّين ـ دع عنك المسئولين الذين إمّا فعلاً قد صدر منهم ما يُنسب إليهم، أو أنّ الكاتب المصري قد تقوّل عليهم.

إذن فهناك خطاب إعلامي جديد بين مصر والسّودان، وقد بدأت طلائع هذا الخطاب تتجلّى عبر خطّة مصريّة متماسكة على ما فيها من فظاظة مهنيّة واشتطاط سياسي، ثمّ "استكراد"، يوازيها في الجانب الآخر خطاب إعلامي سوداني لا يستحقّ أن يُطلق عليه مصطلح "خطاب" إلاّ في كونه يتميّز بالتّخبّط وعدم التّنسيق والتّداعي، في أفضل الأحوال، أو الانبراش وبيع قضيّة شعب بأكمله، في أسوأ الحالات. دعونا نرى إلى أيّها ينتمي الخطاب الإعلامي والسّياسي السّوداني الرّسمي وغيره، فيما يخصّ العلاقة بين مصر والسّودان، متّخذين من قضيّة الحوض النّوبي مثالاً.


بيان وزارة الزّراعة: 6.1 مليون فدّان

يقول السّودانيّون عن مارس إنّه شهر الكوارث. وفي الحقِّ فقد كان شهر مارس من عام 2004م عامراً بالأنباء الكارثيّة بالنّسبة للسّودانيّين، وذلك في سلسلة الكوارث اليوميّة التي ظلّ عموم أهل السّودان يُبتلون بها، كفّارة ذنبٍ و"فطّاسة" روح. في يوم 31 مارس (شهر الكوارث) 2004 جاء في جريدة الصّحافة السّودانيّة (عدد 3892) وفي الصّفحة الأولى وذلك نقلاً عن القاهرة ـ وكالات الأنباء ـ ما يلي: "كشف مسئول كبير في وزارة الزّراعة السّودانيّة عن اتّجاه لطرح نحو 6.1 مليون فدّان في مدينة وادي حلفا على مسافة قريبة من الحدود المصريّة، أمام الشّركات المصريّة وفق عقود انتفاع طويلة الأجل". نُسبت تلك التّصريحات للدّكتور صادق عمارة (وزير الدّولة للزّراعة حينها)، والذي، حسبما جاء في الصّحيفة، واصل قائلاً: "... إنّ السّودان الذي يمثّل عمقاً إستراتيجيّاً لمصر يتيح أراضيه للزّرّاع المصريين، وأنّه توجد مساحات هائلة تتطلّب الجهد والعمل ومنها مساحة خصبة تصل إلى نحو 6.1 مليون فدّان في منطقة أرقين على مسافة قريبة من الحدود المصريّة في شمال السّودان. وقال الوزير لصحيفة الأهرام المصريّة إنّه تجري الآن عمليّة مسحها بالكامل وتقسيمها إلى مساحات متدرّجة تبدأ بألفي فدّان وتصل إلى خمسين ألف فدّان، لطرحها أمام الشّركات المصريّة التي تمتلك الجدّيّة والخبرة، وسيكون ذلك بعقود انتفاع طويلة الأجل". ولنلاحظ هنا أنّه لم يأتِ ذكر لأيّ مشاركات استثماريّة سودانيّة في هذا التّصريح، دع عنك أن يُذكر النّوبيّون أصحاب الأرض الذين تمّ اقتلاعهم بالقوّة المادّيّة القسريّة من أرضهم التّاريخيّة. فهم أولى النّاس النّاس بأيّ خير تتمخّض عنه هذه الأرض الطّيّبة. فإذا علمنا بأنّ النّوبيّين قد بدأوا يولون هذه المنطقة جُلّ اهتمامهم باعتبارها نصيبهم من السّلطة والثّروة، أدركنا مدى الانزعاج الذي يمكن أن يكون قد أصابهم من هذه الأخبار التي تتناقلها الصّحف، دون أن يصدر عنها بيان رسمي من قبل الجهات المسئولة . "
انتهت الحلقة الرابعة .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (4)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

الذي اعرفه هو انّ القائد الحقيقي يضحّي بنفسه لانقاذ بلده وناسها ولا يضحّي ببلده وناسها لانقاذ نفسه .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (5)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته

السطور التالية هي الحلقة (5) .

"
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(5)

مجموعة العمل النّوبي

أثارت هذه الأنباء المفاجئة مخاوف وقلق النّوبيّين، فتنادَوا ذرافاتٍ ووحدانا للتشاور وتبادل الرّأي بخصوص ما أُعلن. وكانت دار اتّحاد المحس والنّادي النّوبي بالخرطوم مسرحاً للعديد من اللقاءات التّلقائيّة والتي سرعان ما تبلورت في جسم أطلقوا عليه اسم "مجموعة العمل النّوبي". قامت المجموعة بجمع معلومات سريعة عمّا نُشر، حيث تكشّفت لهم أشياء مثيرة للقلق، منها أنّ هذا المشروع لم يمرّ عبر قنوات جهاز الاستثمار القومي، كما إنّ الأراضي التي يستهدفها هذا المشروع لا تقع في الحقيقة بمنطقة أرقين غرب وادي حلفا، بل بالحوض النّوبي الذي يبدأ بعد حوالي 30 إلى 50 كلم غرب النّيل. تكثّفت تحركات النّوبيّين في الدّاخل وفي دول الشّتات، مستنكرة لما رأت أنّه بيع للنّوبيّين ولأراضيهم. إزاء تحرّك النّوبيّين قامت وزارة الزّراعة بإصدار بيان أعلنت فيه أن المساحة المقصودة ليست 6.1 مليون فدّان، بل 1.6 مليون فقط، مشيرةً إلى أنّ الرّقم الأوّل جاء خطأً. بيد أنّ الجانب المصري ـ والذي يشكل مصدر المعلومات الرّئيسي في هذه القضيّة حتّى الآن ـ لم يبذل أيّ جهد لتصحيح هذه المعلومة. أدّى هذا إلى ازدياد اهتمام العديد من القطاعات النّوبيّة بهذه القضيّة، خاصّةً عندما تبيّن أنّ الحكومة المصريّة قد قامت قبل ذلك ببيع أراضي النّوبيّين المصريّين بنفس الطّريقة دون أن يكون لأصحاب الأرض نصيب.


مذكّرة المجموعة لكوفي عنان

وهكذا تمكّنت مجموعة العمل النّوبي من صياغة مذكّرة ضافيّة رُفعت في يوم 18 أبريل 2004 إلى السّيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتّحدة بخصوص الحوض النّوبي. خاطبت المذكّرة السّيد الأمين العام قائلةً: "نكتب لك، نحن النّوبيّين النّيليين بالسّودان، هذا الخطاب بوصفكم السّكرتير العام للهيئة التي تمثل المجتمع الدّولي. إنّ هذه بمثابة رسالة استغاثة يبعثها لكم أناس مسالمون حوّلتهم فضيلة السّلام هذي إلى ضحايا". وقد ذهبت المذكّرة إلى حدّ اتّهام الحكومة السّودانيّة ببيع مواطنيها لأسباب سياسيّة وأيديولوجيّة مشيرةً إلى أنّ: "... المفاوضات جرت على أعلى المستويات مع الحكومة المصريّة، وذلك في سبيل تمكين توطين ملايين الفلاحين المصريّين بأسرهم في مثلّث الحوض النّوبي (حلفا ـ عوينات ـ دنقلا) داخل السّودان. وقد تبيّن أنّ الهدف من هذه الخطوة هو حماية الهويّة العربيّة في السّودان من خطر تنامي الوعي بالأفريقانيّة في السّودان عامّة وفي أوساط النّوبيّين خاصّة".

ثمّ كشفت المذكّرة عن الخطّة التي من خلالها سيتم إضفاء المشروعيّة والصّفة القانونيّة على عمليّة البيع: "وقد تمّ الإعلان عن كلّ هذا تحت ستار خطة أطلق عليها "الحريّات الأربع" والتي تسمح نظريّاً للسودانيّين والمصريّين على حدٍّ سواء بامتلاك الأراضي الزّراعيّة والاستقرار في كلا البلدين. ... إذ ليس هناك أراضي زراعيّة يمكن للمستثمرين السّودانيّين أن يحوزوها في مصر، بينما هناك أراضي وفيرة في السّودان ينظر إليها المصريون بطمع بغية امتلاكها. ... لم يأت ذكر للنّوبيّين في كلّ هذه العقود التي أبرمت بليلٍ".


مصر الإمبرياليّة

ثمّ قامت المذكّرة بتوجيه الاتّهام الصّريح لمصر زاعمةً أنّ لها أطماعاً توسّعيّة بالسّودان: "لقد كان لمصرـ ولا زال ـ أطماعها الاستعماريّة بالسّودان، ذلك بوصفه الفناء الخلفي لها. لهذا كلّما قلّ عدد السّكان بالمنطقة، كلّما سهل احتلالها. ... إنّ مصر لم تتخلّ عن أطماعها التّوسّعيّة في السّودان منذ الاستعمار المصري ـ التّركي (1820م-1885م). وقد جاءت شراكتها مع بريطانيا في الاستعمار الثّنائي (1899م ـ 1956م) امتداداً لتلك الأطماع. والآن مع إرهاصات تفكّك السّودان إلى دويلات ضمن تداعيات احتمال انفصال الجنوب، فإنّ مصر تخطّط لضمّ الإقليم النّوبي النّيلي بالسّودان والذي يقع أسفل إقليم الشّايقيّة، وذلك تحت ادّعاءات حماية أمنها المائي". ولتوكيد هذا الزّعم أشارت المذكّرة إلى أنّ مصر: "... لا تزال تحتلّ منذ عدّة عقود مثلّثي سرّة، شمال حلفا، وحلايب، على البحر الأحمر. ولكن يبقى مثلّث الحوض النّوبي (حلفا ـ عوينات ـ دنقلا) هو الهدف الإستراتيجي لمصر، حيث تعمل لضمّه لما يُسمّى "مشروع توشكى" بمصر العليا".

وتمضي المذكّرة في تقديم تفصيلات أكثر لما تراه أطماعاً مصريّة في السّودان: "إنّ مصر تخطّط لإقامة مثلّثها الاستعماري الاستيطاني الأكبر بالسّودان، والذي يمتد من جبل عوينات عند تقاطع الحدود السّودانيّة ـ الليبيّة ـ المصريّة حتّى حلايب على البحر الأحمر، على أن تكون دنقلا هي رأس المثلّث الجنوبي".

كانت تلك المذكّرة بمثابة ضربة البداية لمباراة طويلة لم ينته شوطها الأوّل حتّى الآن. فبدايةً نشير إلى أنّ أهمّيّة تلك المذكّرة لا تكمن في لهجتها القويّة بقدر ما تكمن في أنّ من أصدروها هم نوبيّون. فأكثر السّودانيّين تعلّقاً وعلائق بمصر هم النّوبيّون، فأشواقُهم فيما عُرف عنهم تاريخيّاً كانت دائمّاً تملأ أشرعتَها رياح المحبّة المصريّة. ولكنّا في المقابل نُشير إلى أنّ رئيس الوزراء السّوداني الوحيد الذي أعلن استعداده لمواجهة مصر وأطماعها التّوسّعيّة في السّودان، كان عبدالله خليل، وهو ليس فقط نوبيّاً، بل وذو وشائج قربى قويّة بمصر إذ ينحدر من النّوبة الذي يقعون على الجانب المصري، وتحديداً من قرية أدندان. ثمّ لا نحتاج لأن نشير إلى أنّ من أعلنوا استقلال السّودان اكتسحوا الانتخابات تحت شعار وحدة وادي النّيل. وفي الوقع هذه بعض معميّات الشّخصيّة السّودانيّة التي استعصى فهمها على المصري، مواطناً عاديّاً كان، أم وزيراً، أم باحثاً أكاديميّاً.

إذن فقد نشطت منظّمات المجتمع المدني النّوبيّة في الدّاخل والخارج، وهذا ضرب من النّشاط عُرف به النّوبيّون منذ عهود قديمة وهم فيه روّاد. من جانبها واصلت الحكومة على النّفي، ثمّ النّفي، ثمّ النّفي، بينما سيل الأخبار المناقضة لنفيها تترى من القاهرة بين الفينة والأخرى. في هذا برزت عدّة تنظيمات سياسيّة نوبيّة، أغلبها ممّن تأسّس في عقد التّسعينات من القرن العشرين؛ وقد أعلن بعضها استعدادها لحمل السّلاح في حال دخول المصريين الحوض النّوبي. وكان للمواقع النّوبيّة الإلكترونية العديدة دور كبير في تعبئة الرّأي العام النّوبي، بمصر والسّودان.


نفي واستنكار: لا وألف لا!

انقضى عام 2004م والعديد من المسئولين الحكوميّين قد نفَوا وشدّدوا النّكير في أنّ الذين يردّدون مقولات بيع الحوض النّوبي للمصريّين ما هم إلاّ أعداء للثّورة والوطن، إذ إنّ ما يردّدونه لا يعدو أن يكون بضاعة معارضة كاسدة لن تجد من يشتريها من الشّعب، نوبيّين أو غير نوبيّين. وقد بدأ مسلسل التّراجع عمّا ورد بجريدة الصّحافة المشار إليها أعلاه، إلى أنّ الرّقم الصّحيح هو 1.6 مليون فدّان وليس 6.1 فدّان التي وردت كخطأ فنّي. ليس ذلك فحسب، بل ذهب الدّكتور صادق عمارة (وزير الدّولة بوزارة الزّراعة) إلى التّنبيه لدى ملاقاته للعديد من النّوبيّين، صدفةً أو تدبيراً، إلى أنّه كنوبي (كذا!) لا يمكن أن يقوم بعملٍ كهذا. وقد تصدّت للدّفاع عن نزاهة الرّجل إزاء ما يُقال من أنّه فعل ذلك إحدى سكرتيرات مكتبه من النّوبيّات، فشرعت في تدبيج البيانات في المواقع النّوبيّة ثمّ في إحدى غرف الـ Pall Talk النّوبيّة، مبديةً استعداد السّيّد الوزير للمشاركة في الغرفة للرّدّ على استفسارات المواطنين الذين أقلقهم ما ورد في مذكّرة مجموعة العمل النّوبي. وبالفعل، نجحت تلك الحملة المضادة في شقّ صفوف النّوبيّين، فإذا هم بين مصدّق ومكذّب لما ورد. فالأمر في نهاية المطاف تحوّل إلى "كلام جرايد"، وليس أكذب في عرف الشّارع السّوداني من ذلك.

كلّ هذا حدث قبل توقيع اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع بين حكومتي مصر والسّودان، وهي الاتّفاقيّة التي تعطي نظريّاً المصري والسّوداني على قدم المساواة حق التّنقّل والإقامة والعمل والامتلاك. ونقول "نظريّاً" لأنّ واقع الحال سيكشف أنّ السّوداني حرّ فعلاً، لكن بحدود؛ هذا بينما يتفوّق عليه المصري في كون الأخير أكثر حرّيّةً من السّوداني فيما يتعلّق بهذه الحقوق نفسها. "
انتهت الحلقة (5) .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (5)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

الذي اعرفه هو انّ القائد الحقيقي يضحّي بنفسه لانقاذ بلده وناسها ولايضحي ببلده وناسها لانقاذ نفسه .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (6) .

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته
السطور التالية هي الحلقة (6) .
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(6)

مرحلة ما بعد اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

التّوقيع على الاتّفاقيّة الحريّات

في الخامس من أبريل عام 2004م، أي قبل يوم واحد من الذّكرى التّاسعة عشرة لثورة أبريل 1985م، ورد العنوان التّالي بالصّفحة الأولى: "السّودان ومصر يوقّعان اتّفاقيّة الحريّات الأربع" (جريدة الصّحافة، عدد 3897، بتاريخ الإثنين 15 صفر 1425هـ الموافق 5 أبريل 2004م). كما ورد نفس الخبر وفي الصّفحة الأولى بجريدة الأيّام، ولكن مع فارق ربّما كان خطأً مطبعيّاً من الأيّام أو الصّحافة (لا يهمّ) أو جزءاً من ثقافة "الكلفتة" التي ضربت بأطنابها في بلادنا منذ أمدٍ ليتمّ تكريسها بما لم يسبق في زمن الإنقاذ الكالح؛ [عدد 7859، بتاريخ الإثنين 14 صفر 1425هـ الموافق 5 أبريل 2004م] فقد ورد التّاريخ العربي مختلفاً بينهما.

ضمّ الوفد السّوداني بالإضافة إلى السّيّد رئيس الجمهوريّة كلاًّ من السّادة الوزراء الآتية أسماؤهم: مصطفى عثمان إسماعيل (الخارجيّة ـ عن المؤتمر الوطني الحاكم)، الزّهاوي إبراهيم مالك (الإعلام ـ عن حزب الأمّة جناح مبارك الفاضل)، مجذوب الخليفة (الزّراعة ـ عن المؤتمر الوطني الحاكم)، جلال الدّين الدّقير (الصّناعة ـ عن الحزب الاتّحادي الدّيموقراطي جناح زين العابدين الهندي). أمّا الوفد المصري، فقد ضمّ بالإضافة إلى السّيّد رئيس الجمهوريّة كلاًّ من السّادة الوزراء الآتية أسماؤهم: عاطف عبيد (رئيس الوزراء)، يوسف والي (الزّراعة)، حسين طنطاوي (الدّفاع والإنتاج الحربي، صفوت الشّريف (الإعلام)، وأحمد ماهر (الخارجيّة).

بخصوص الاتّفاقيّة ورد في الصّحافة: "ووقّع إسماعيل وماهر في حضور البشير ومبارك على اتّفاقيّة الحريّات الأربع (التّنقّل، والعمل، والإقامة والتّملّك)". وفي ذلك "ذكر [وزير الإعلام المصري] أنّ الحرّيّات الأربع بشأن التّنقّل والعمل والإقامة والتّملّك سواء بالنّسبة للأراضي أو العقارات أو المنقولات أو الشركات والشّراكة ...". أمّا مصطفى عثمان إسماعيل (وزير الخارجيّة السّوداني) فقد صرّح للصّحفيّين بمطار الخرطوم وذلك عقب عودة الرّئيس عمر البشير من القاهرة واصفاً التّوقيع على الاتّفاقيّة بقوله: "... التّوقيع على اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع ... إنجاز تاريخي ...".


ندوات مركز الأهرام

الإطار التّطبيقي لاتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

ما إن أطلّ عام 2005م حتّى طالعتنا ملفّات الأهرام الإلكترونيّة بقولٍ نُكر لم يُسبق عليه مسئول سياسي سوداني من قبل. فقد حمل لنا شهر يناير من ذلك العام إفادات نُسبت لإثنين من المسئولين السّودانيّين، أوّلها بتاريخ 7 يناير 2005م وتخصّ الفريق (الفريق آنذاك) عبد الرّحيم محمّد حسين (كان وقتها وزير الدّاخليّة ـ الآن وزير الدّفاع) وذلك في معرض لقائه بالعلماء والخبراء والباحثين المصريّين بمركز الأهرام للدّراسات الإستراتيجيّة الذين تحلّقوا حوله مستفسرين عن المشروع، ثمّ محقّقين عن جدواه. والإفادة الثّانية تلك التي تخصّ الدّكتور الصّادق عمارة، وكان وقتها وزير الدّولة بوزارة الزّراعة السّودانيّة، وذلك بتاريخ 21 يناير 2005م في سياق ندوة نظّمها أيضاً مركز الأهرام للدّراسات الإستراتيجيّة. وقد بدا واضحاً من الأسئلة والمخاوف التي رفعها العلماء والخبراء بالمركز حول جدوى وعواقب مشروع استيطاني خطير كهذا، كما لو أنّ النّظام المصري قد دفع بالمسئولين السّودانيّين لتبديد هذه المخاوف، وإظهار المشروع باعتباره مطلباً سودانيّاً قبل أن يكون مصريّاً. وهذا ما يبدو واضحاً ممّا نُسب إلى المسئولَيْن المعنيّين أنّهما قد قاما به بأكثر ممّا خطّط له المصريّون.

في تلك النّدوة نُسب إلى الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين قوله: "ركّز الوزير السّوداني في حديثه إلى خبراء وباحثي مركز الدّراسات على أنّ التّصوّر بأنّ النّظام السّوداني هو الذي يحتاج إلى مصر في هذه المرحلة ولذلك يبادر إلى طرح هذه الأفكار هو تصوّر قاصر ومبتسر ... ولذا فإنّ إستراتيجيّة التّعاون هذه ليست نابعة من رؤية سياسيّة تستند على أمن نظام هنا أو هناك وإنّما هي رؤية إستراتيجيّة لمستقبل مشترك".

وقد يسألُ سائلٌ: ولكن هل صدقت ملفّات الأهرام؟ وفعلاً تُرى ما هي درجة المصداقيّة التي تتمتّع بها ملفّات الأهرام التي سنتناول بالعرض والتّحليل مضابط ومحاضر ندواتها فيما يخصّ تهمة بيع الحكومة السّودانيّة مثلّث الحوض النّوبي لمصر بغية توطين ملايين الفلاّحين المصريّين؟ .

في الحقيقة يهمّنا الوقوف على أمر مصداقيّتها في القليل وفي الكثير. فإن هي عُدمت المصداقيّة، فهذا شأن لا يخصّ فقط من تقوّلت عليهم. إذ عندها حُقّ لنا ولجميع قطاعات الشّعب السّوداني أن نطالب ساستنا بعد تسجيلهم للإدانة الدّامغة لمثل هذا التّقوّل، أن يراجعوا أنفسهم في علاقتهم ببلدٍ يفتري عليهم بهذا المستوى. وإن هي كسبت معركة المصداقيّة، حُقّ لنا وجميع قطاعات الشّعب السّوداني أن نُراجع أمر ساستنا الذين يبدو كما لو أصابهم مسٌّ من جنون السّلطة (وهو شيء شبيه بجنون البقر)، فنعمد إلى مواجهتهم ولو كان في ذلك حتفنا، وليحيا بعد ذلك الوطن.
يتبع ..
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (6) .

مشاركة بواسطة برق خاطف »

لكن ليت الأمر توقّف عند مصداقيّة الأهرام المصريّة؛ إذ ما قالته الأهرام هناك، قالته أيضاً هنا في السّودان، وعبر صفحات العديد من الصّحف السّودانيّة التي طفقت تردّد ذلك في سرور وحبور. إذن، تعالوا لنرى!


ملفّات الأهرام: الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين

الخبراء في حضرة الفريق

الآن دعونا نستعرض بعضاً ممّا نُسب إلى الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين، في لقائه بخبراء وباحثي مركز الأهرام للدّراسات الإستراتيجيّة، ممّا فهمه الكثيرون على أنّه استجداء لمصر كيما تحتلّ السّودان شمال السّودان: "شدّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين في عرضه على أنّ مجرى نهر النّيل في المنطقة الواقعة بين الخرطوم حتّى وادي حلفا في الشّمال أكثر طولاً من ذلك الجزء من النّهر الذي يمرّ في الأراضي المصريّة وأشار إلى مفارقة هائلة تتمثّل في أنّ سكّان مصر الذين يتركّزون بشكل أساسي حول ضفّتي النّهر يبلغون تقريباً 70 مليون نسمة بينما يعيش 1.2 مليون نسمة فقط في المسافة من الخرطوم إلى وادي حلفا. وإذا كانت التّقديرات تشير إلى أنّ عدد سكّان مصر سوف يصل إلى 100 مليون نسمة بعد عشرين سنة من الآن فأين سوف يذهبون وإلى أين سيكون التّوجّه المصري لمعالجة هذا الموقف؟" .

ولكن السّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين (فيما نُسب إليه) لا يجيب عن هذا السّؤال ذي التّداعيات الخطيرة، بل يتركه لذكاء الخبراء، ثمّ القرّاء من بعدهم. ثمّ إن هي إلاّ هُنيهة، فإذا به يُمطرنا ـ خبراءَ وقرّاء معاً ـ بسيل من الإجابات والتّبريرات التي نظر إليه الكثيرون على أنّها يمكن أن تُوصف بأيّ شيء إلاّ الذّكاء، دع عنك الكرامة والوطنيّة: "في هذا الإطار أشار الوزير السّوداني إلى أنّ مصر اتّجهت اهتماماتها السّياسيّة والفكريّة والثّقافيّة طوال الخمسين عاماً الماضية إلى الشّمال ولم تلتفت إلى حدودها الجنوبيّة وأنّه قد حان الوقت لوضع إستراتيجيّة تكفل تحقيق المصالح الحيويّة لقطري وادي النّيل حيث إن الأوضاع الحاليّة تستوجب أن يكون التّحرّك المصري هو باتّجاه السّودان على الأقلّ لحل مشاكل مصر الغذائيّة والسّكّانيّة وفي الوقت نفسه المساهمة في تحقيق التّنمية والاستثمار الأمثل للموارد في السّودان بشكل متوازن ومتبادل لمصلحة كلا الطّرفين". جانباً عن بطلان مقولة إنّ مصر قد انصرفت عن إيلاء الشّأن السّوداني ما يستحقّ من اهتمام خلال الخمسين عاماً الماضية، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المدّة تتطابق مع الفترة الزّمنيّة التي تمّ فيها توقيع اتّفاقيّة السّدّ العالي، وإغراق ذلك الجزء من الإقليم النّوبي، ثمّ إفراغ المنطقة من السّكّان تماماً. ومع تحرّي السّيّد "الوزير السّوداني" لتحديد حيثيّات الاستفادة المصريّة (حلّ مشاكل مصر الغذائيّة والسّكّانيّة ـ على الأقلّ) يترك لنا حيثيّة الاستفادة السّودانيّة في إجمالها دون تفصيل.


أراضينا مفتوحة لكم

ثمّ يواصل الفريق وزير الدّاخليّة (فيما نُسب إليه) في عرضه لأراضي السّودان المختلفة، داعياً المصريّين كيما يأخذوا منها باليمين وباليسار: "وقال الفريق عبد الرّحيم إنّ مصر اتّجهت إلى استصلاح بعض الأراضي الصّحراويّة في مشروع توشكي أمام السّدّ العالي لاستصلاح 600 ألف فدّان وأكّد أن ما صُرف على هذا المشروع كان من الممكن وبكلّ سهولة أن يستثمر لاستصلاح ما يزيد عن ثلاثة ملايين فدّان في السّودان وأنّ هناك بالفعل مساحات جاهزة للزّراعة في كلٍّ من المديريّة الشّماليّة وكسلا والقضارف مساحتها 4 مليون فدّان وأشار إلى أنّ إجمالي الأراضي الزّراعيّة القابلة للزّراعة في السّودان هي 220 مليون فدّان وأنّ المستغلّ منها هو 40 مليون فدّان فقط في حين أنّ كلّ سكّان مصر يعيشون على 6 مليون فدّان".

وتبلغ هذه الملهاةُ المأساةُ قمّتَها عندما يتفنّن الجانب السّوداني في مناوراته لإقناع الجانب المصري بالاستيطان في السّودان تحت غطاء الاستثمار حلاًّ لمشاكل مصر الغذائيّة والسّكّانيّة (على الأقلّ). فالأصل في سوق مثل هذه الحجج أن يقوم بها الجانب المصري (المتهافت) لإقناع الجانب السّوداني (المتمنّع). أنظروا إلى هذا التحاجج الذي ساقه وزير الدّاخليّة السّوداني (فيما نُسب إليه) في لقائه العجيب ذلك بخبراء وباحثي مركز الأهرام: "وأنّه إذا كانت تكلفة استصلاح الفدّان الواحد في مصر تبلغ عشرة أضعاف استزراع الفدّان في السّودان فإنّ النّظرة الاقتصاديّة الرّشيدة تستوجب أن تتمّ هذه العمليّات والمشروعات في الأراضي السّودانيّة لصالح البلدين". ثمّ فجأةً، وبعد هذا مباشرةً، تنكمش أراضي السّودان المتعدّدة تلك، لتصبح منطقة بعينها: "ولمزيد من التّوضيح [توضيح للخبراء المصريّين في مجال الاستثمار يقوم به لواء في الجيش السّوداني ـ كذا] ضرب الوزير السّوداني بعض الأمثلة المحدّدة وقال بأنّ منطقة ’أرقين‘ جنوب الحدود السّودانيّة المصريّة مباشرةً بها أراضي خصبة قابلة للزّراعة مساحتها 1.5 مليون فدّان وأنّ هذه المنطقة يمكن بدء العمل فيها فوراً وبإمكانها استيعاب مئات الآلاف من الأسر المصريّة لتشغيل مثل هذا المشروع وأنّ هذا يحقّق مصالح عديدة لمصر من بينها تخفيف حدّة البطالة واستثمار اقتصادي بعائد مربح واستثمار إستراتيجي بتوفير الغذاء بالاعتماد على الذّات".

ولنا أن نعجب من مقولة "الاعتماد على الذّات" هذه؛ إذ أين الاعتماد على الذّات عندما تنهب دولة (مصر) موارد دولة أخرى (السّودان) لمجرّد أنّ موارد هذه الدّولة الأخرى قد نامت عن ثعالبها النّواطيرُ؟ ثمّ لنا أن نعجب أكثر للكيفيّة التي بها يمكن لقرية صغيرة (أرقين) أن تتمخّض عن أراضٍ بهذا الحجم؟ ثمّ تُرى كم من مئات الآلاف سيقف عندها هذا الرّقم العجيب من الأسر المصريّة؟ نصف مليون، أم ثلاثة أرباع المليون، أم المليون نفسه؟ ثمّ ماذا يعني فعليّاً عدد "مئات الآلاف من الأسر المصريّة"؟ للإجابة على هذا السّؤال علينا أن نقوم بمضاعفة عدد كلّ أسرة في المتوسّط سبع مرّات على أقلّ تقدير، لنكوّن فكرة عمليّة عن العدد الكلّي للرّقم الذي نُسب إلى الوزير السّوداني. وعلى أيّ حال، إذن فما ردّده النّوبيّون عن مسألة بيع الحوض النّوبي للمصريّين تحت دعاوى الاستثمار بينما الاستيطان هو المقصود، يتجاوز الشّائعة ليصبح موقفاً رسميّاً لا يبوء به إلاّ النّظامان الحاكمان في السّودان ومصر، أو أحدهما. "
انتهت الحلقة (6) .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (6) .

مشاركة بواسطة برق خاطف »

الذي اعرفه هو انّ القائد الحقيقي يضحّي بنفسه لانقاذ بلاده وناسها ولايضحّي ببلاده وناسها لانقاذ نفسه .
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (7) .

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته

"
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(7)

ملفّات الأهرام: الدّكتور الصّادق عمارة

مندوب رئيس الجمهوريّة

الآن دعونا نستعرض بعض جوانب من التّصريحات التي يفترض أنّ الدّكتور الصّادق عمارة قد قدّمها وقتها عندما كان وزير الدّولة بوزارة الزّراعة، لدى لقائه بالخبراء المصريّين بالقاهرة في 21 يناير 2005م وذلك حسبما نسبته إليه ملفّات الأهرام في سياق ندوة نظّمها أيضاً مركز الأهرام للدّراسات الإستراتيجيّة. وقد شارك السّيّد صادق عمارة في تلك النّدوة لا بوصفه وزير الدّولة للزّراعة فحسب، بل بوصفه: "المكلّف رسميّاً من الرّئيس السّوداني عمر البشير ومن الحكومة السّودانيّة بمسئوليّة التّكامل الزّراعي بين البلدين في إطار العلاقات الثّنائيّة التّكامليّة التي ترعاها اللجنة العليا المشتركة ويتولّى الملفّ الخاص بها وزيرة التّعاون الدّولي فايزة أبو النّجا في مصر، والدّكتور مجذوب الخليفة وزير الزّراعة في السّودان". وهنا ننقل الصّيغة الحرفيّة للتّقديم الرّسمي الذي ابتدر به مدير النّدوة الحديث. كما قيل في تقديمه أيضاً: "وكان الدّكتور عمارة قد أجرى في القاهرة الأسبوع الماضي اتّصالات عديدة بهذا الخصوص مؤكّداً أنّه مكلّف من الرّئيس البشير بسرعة العمل وأنّ الرّئيس بشير قال له إنّ الرّئيس حسني مبارك مهتمّ بمنطقة أرجين [أرقين] والمشروعات التي تقام فيها". عليه يكون الدّكتور الصّادق عمارة قد تفاوض في هذا الموضوع بوصفه ممثّلاً للحكومة السّودانيّة. عليه، سيكون من الصّعب للمرء أن يقبل بالدّفوعات التي قدّمها فيما بعد عندما كشف النّوبيّون هذه الوثيقة للرّأي العام النّوبي والسّوداني، إذ جاء إلى النّادي النّوبي بالخرطوم ونفى نفياً قاطعاً أن يكون قد أدلى بهكذا حديث لأيّ جهة. ومع كلّ هذا، لم نسمع عن نفي رسمي، لما ورد بملفّات الأهرام، التي كان ينبغي أن تُلاحق رسميّاً في تقوّلها على رئيس الجمهوريّة عمر البشير، دع عنك وزيري الزّراعة مجذوب الخليفة والصّادق عمارة.

تبدأ النّدوة التي قدّمها محمود مراد بقول الأخير: "دقّت ساعة العمل الجاد بين القاهرة والخرطوم لتنفيذ مشروع للتّكامل بين مصر والسّودان، يعدّ نموذجيّاً بكلّ المقاييس والمواصفات ...". ومع أنّ السّيّد مقدّم النّدوة لا يشرح لنا بالنّسبة لمن يُعدّ هذا المشروع نموذجيّاً بكلّ المقاييس والمواصفات، بالنّسبة لمصر، أم للسّودان؟ إلاّ أنّ الإجابة على هذا السّؤال الهام ستقفز من بين السّطور عمّا قليل كما تقفز أسماك البحر عندما تستبدّ بها النّشوة. بعد هذا التّقديم انبرى الدّكتور الصّادق عمارة قائلاً: "لقد اكتملت القناعات وآن الأوان لدفع عجلة التّكامل .. ومن هنا وقع الاختيار على ’أرجين‘ [يقصدون ’أرقين‘] لتكون نموذجاً قابلاً للتّوسّع .. وهذا الاسم للمنطقة نسبة إلى القرية السّودانيّة المسمّاة به والتي تقع على حدود مصر مباشرةً بمسافة عدّة أمتار .. وهي تحديداً على مسافة 65 كيلومتراً من مدينة أبو سمبل المصريّة التي ينتهي عندها خطّ السّكّة الحديد المصريّة، والفكرة ببساطة تعتمد على أنّها أرض طيّبة .. وتروى من مياه النّيل مباشرةً كما يوجد بها أكبر خزّان للمياه الجوفيّة في أفريقيا وهو الحوض النّوبي .. وتصلح جدّاً للزّراعة .. والإنتاج الحيواني .. بما يغطّي احتياجات مصر ويفيض للتّصدير [التّرقيم عن طريق التّنقيط جاء هكذا في الأصل]".

هذا القول وحده يكفي كقرينة دالّة على أنّ المقصود هنا هو الحوض النّوبي وليس قرية أرقين. فالسّيّد الوزير يقول بصريح العبارة بأنّ إطلاق الاسم ’أرقين‘ على المنطقة المعنيّة يعود إلى القرية، الأمر الذي يعني أنّ المنطقة المعنيّة أكبر بكثير من قرية أرقين. فإذا كانت هذه المنطقة تروى من النّيل مباشرةً، تُرى ما هي مناسبة الإشارة إلى أنّها تقع بجوار أكبر خزّان للمياه الجوفيّة بأفريقيا؟


جدّاً ... جدّاً

ونلاحظ كيف تُظهر مضابط النّدوة السّيّد وزير الدّولة للزّراعة، كما لو كان يتهافت في استجدائه للخبراء المصريّين، كيما يقتنعوا بفكرة المشروع، وذلك في تبسيطه لمشروع خطير كهذا، فضلاً عن قوله ".. وتصلح جدّاً للزّراعة .. والإنتاج الحيواني ..". ثمّ لا يقف عند هذا، بل يحاول، كرفيقه الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين، أن يُحاضر [كذا] الخبراء المصريّين إلى ما فيه خير بلادهم: "فإنّ مصر تستورد حاليّاً ستّة ملايين طن قمح وخمسة ملايين طن من الذّرة الصّفراء ومليون طن فول صويا غير الزّيوت والسّكّر وغيرها .. فلم لا تنتج هذا بل وتصدّره .. ولم لا تنتج الأرز ـ مستخدمة خبرتها ـ وتصدّره بكميّات كبيرة إلى العالم؟" ولكن ماذا عن حقوق النّوبيّين في منطقتهم هذه؟ هنا يأتي الرّدّ المنسوب للسّيّد الوزير جاهزاً وخالياً من الحصافة: "بهذا وغيره تصبح أرجين منطقة تكامل نموذجيّة وهي جاهزة .. وخالية من السّكّان إذ تنتشر حولها تجمّعات قبائل نوبيّة ...". ولكن السّيّد الوزير لا يعطينا أيّ أرقام بخصوص تجمّعات قبائل مواطنيه النّوبيّين التي يستخفّ بها كما لو كانت كغُثاء السّيل لا يعبأ الله بهم، هذا بينما لم تخنه الإحصائيّات الدّقيقة وبالملايين عندما تعلّق الأمر باحتياجات السّادة المصريّين. وعلى أيّ حال، هذا القول إمّا أنّه يكشف عن قدر ومكانة النّوبيّين الوضيعة في نظر حكومتنا المصونة، أو أنّه يكشف عن نفس المكانة الوضيعة للنّوبيّين في نظر حكومة مصر المحروسة (أو قُل: مصر المؤمّنة) ـ هذا إن لم يكن الأمران معاً، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

تُرى ما الذي يخبّئه القدر لنا، نحن السّودنيّين، الذين ظللنا نتدهور من حالق الحضارة إلى حضيض التّخلّف بسرعة مذهلة ومنتظمة، كما لو كنّا جلمود صخرٍ حطّه السّيلُ من علٍ؟

فإذا كان هذا ما افتراه المصريّون، وعبر واحدة من أعرق مؤسّساتهم البحثيّة، تقوّلاً على المسئولين السّودانيّين، بدءاً من السّيّد الرّئيس انتهاءً بوزراء الدّولة، فلم لم يصدر أيّ نفي رسمي، ثمّ احتجاج رسمي يُطالب الجانب المصري بالاعتذار عن هذه التّقوّلات؟ دعونا نستمرّ في استعراضنا لنرى، إذ عمّا قليل سنرى كيف لم يفوّت المصريّون أيّ فرصة لذكر اسم أيّ مسئول له ضلع أو شبهة ضلوع في هذا الأمر الخطير.


حدود التّوسّع المصري شرقاً وشمالاً

تُرى إذا كانت المنطقة المقصودة هنا هي الحوض النّوبي، إلى ماذا إذن تُشير كلمة ’وغيره‘ في جملة ".. بهذا وغيره ..." من الحديث المنسوب للوزير الصّادق عمارة أعلاه؟ فهل هناك مناطق أخرى؟ هنا سرعان ما تقفز علينا سمكة الإجابات، فنقرأ في الفقرة التي تلي ذلك مباشرةً: "والمنطقة مرتبطة بشبكة طرق ... منها نهر النّيل، ومنها الطّريق البرّي بين أبو سمبل ـ دنقلا وهناك توجيهات بإتمامه فوراً وقد جرى بحث هذا من قبل بين وزير النّقل السّوداني: السّمّاني الوسيلة [حينها؛ الآن يشغل وزير الدّولة بالخارجيّة عن الحزب الاتّحادي الدّيموقراطي جناح زين العابدين الهندي] وبين وزير النّقل المصري الدّكتور عصام شرف واتّفقا على طريق من أبو سمبل في مصر إلى مدينة دنقلا ـ شمال السّودان ـ ومنها يتفرّع شرقاً إلى مدينة القضارف، ثمّ إلى إثيوبيا، كما يتفرّع طريق آخر غرباً ...".

ويقول في النّدوة المهندس علي الهيتمي: "ولأنّ الطّرق مهمّة في التّنمية .. فقد علمنا هذا في الفترة الأخيرة، واتّفق الدّكتور محمّد إبراهيم سليمان وزير الإسكان والمرافق العامة والمجتمعات العمرانيّة مع معالي محمّد طاهر جيلا وزير النّقل السّوداني [حينها] على شقّ طريق برّي بموازاة البحر الأحر من الحدود المصريّة السّودانيّة حيث ينتهي الطّريق المصري المرصوف، ويمتدّ حتّى ميناء بورسودان ...". وهكذا يشرع المسئول المصري في تعداد الطّرق التي من شأنها أن تخترق الأقاليم السّودانيّة شمالاً وشرقاً وغرباً. ولكن من هو محمّد طاهر جيلا؟ هل التبس الأمر على المسئول المصري ولذا يشير هنا إلى الوزير الأسبق في عهد الدّيموقراطيّة "محمّد طاهر "، أم يا ترى التبس عليه اسم محمّد طاهر إيلا؟ ثمّ هذا ناتج عن لبس، أم هي عادة المصريّين في تهجئة أسماء المسئولين السّودانيّين كما لو كانت أسماء ما السّحرة والشّياطين؟ ولنا أن نعجب، إن كان ذلك كذلك، كيف ارتدّ المسئول المصري بطريقة انعكاسيّة إلى عادة المصريّين الرّسميّة في نطق أسماء المسئولين السّودانيّين بطريقة خاطئة كأنّما هي أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

ونلفت نظر القارئ إلى أنّ هذه هي نفس مصر التي تحتلّ حلايب ومثلّث سرّة بأدنى وادي حلفا لعقود وعقود، بل نلفت نظره إلى أنّ هذا هو نفسه النّظام الذي زعم أنّه جيّش الجيوش وأعلن النّفرة الكبرى لتحرير حلايب من قبضة المصريّين . وهي نفس الدّولة التي عملت على وضع العراقيل للحيلولة دون تمكّن الحكومة السّودانيّة من إجراء التّعداد السّكّاني بمثلّث حلايب عام 2008م. وهي نفس الدّولة التي تصدر عنها العديد من أعمال التّرويج التّجاريّة السّودانيّة، فتعمل على الاستفادة من حالة الغفلة الوطنيّة المزمنة لدى الصّفوة السّودانيّة، فتُظهر خريطة السّودان وحلايب ليست جزءلً منه.


هل هناك مناطق أخرى يا ترى؟

دعونا الآن نتأمّل مسألة شبكة الطّرق العنكبوتيّة التي يزمع القوم إنشاءها في شمال وشرق السّودان، ويزعمون بأنّهم قد حصلوا في ذلك على العون كلَّ العون من الحكومة السّودانيّة. تُرى ما هي قصّتها؟ لفهم ذلك قد نحتاج إلى ربطه بما نُسب إلى السّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين [أنظر أعلاه] لنفس المجموعة من الخبراء والباحثين، في معرض حثّه لهم بقبول مشروع توطين ملايين المصريّين في السّودان: "وأنّ هناك بالفعل مساحات جاهزة للزّراعة في كلٍّ من المديريّة الشّماليّة وكسلا والقضارف ..."، عندها وجب علينا اتّخاذ الحذر من مثل هذا المشروع. فالمسألة ربّما كانت تتعلّق فعلاً بالمشروع الأمريكي البريطاني الرّامي إلى تفكيك الدّول الكبيرة بالمنطقة وتقسيمها إلى دويلات صغيرة على غرار نظام الدّولة المشيخيّة الذي تقوم عليه دول الخليج العربي، حيث لا يمكن للواحدة منها الدّفاع عن نفسها إزاء أيّ خطر خارجي دون مساعدة لوجستيّة مباشرة من إخدى الدّول العظمى (أمريكا طبعاً). ففي نفس اللقاء يقول الدّكتور الصّادق عمارة: "هناك تفصيلات كثيرة لم نقلها ...". وبالفعل صدرت مؤخّراً بعض الصّرخات الاستغاثيّة من أهلنا البجا تشير إلى مصادرة الأراضي في دلتا القاش وطوكر ومنحها لشركات مصريّة.

وليت الأمر توقّف عند هذا الحدّ، إذ واصل في انحداره بطريقة رأسيّة، ليصل دركاً سحيقاً في الرّياء ومسح الجوخ، بما لم يألفه السّودانيّون أبداً في تعاملهم مع العرب عموماً والمصريّين خاصّة.
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (8)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته
السطور التالية هي الحلقة (8) .
"
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(8)

تهافت التّهافت

وما يجعلنا نذهب إلى أنّ الموضوع كلّه محاولة مصريّة لإقناع المؤسّسات العلميّة الأكاديميّة لتقبل وتبارك مشروعها المتهافت الذي يقوم على الاستيطان في السّودان تحت غطاء الاستثمار هو تبادل الأدوار بين مقدّم النّدوة، محمود مراد، وهو صحفي يبدو كما لو كان مكلّفاً بتسويق هذه الصّفقة، وبين المسئولين السّودانيّين. تأمّلوا معنا ما يقوله محمود مراد: "وبالنّسبة للنّقطة الحسّاسة .. وهل تكون الأرض ملكيّة خالصة أم حقّ انتفاع فإنّني أقول في ضوء مناقشاتي مع المسئولين السّودانيّين ـ وعلى مستوى رفيع ـ إنّ هناك دراسة حول التّمليك تأسيساً على اتّفاقيّة الحريّات الأربع بين البلدين وهي: حقوق ’السّفر والإقامة والعمل والتّملّك‘. والنّظام المعمول به حاليّاً ومن الآن هو الحصول على الأرض بعقد ’حقّ الانتفاع لمدّة خمس وخمسين سنة وتجدّد‘ ويمكن أن تكون ـ وهذا ميسور ـ لمدّة تسع وتسعين سنة، قابلة للتّجديد ...". ويعكس هذا الخلفيّة التي صيغت عليها اتّفاقيّة الحريّات الأربع، الأمر الذي يجعل المرء يفكّر في ما قالت به مجموعة العمل النّوبي، عندما زعمت بأنّ المسألة كلّها تمثيليّة الغرض منها ذرّ الرّماد في عيون الشّعب حتّى لا يرى بأمّ عينيه الوطن يُباع في الدّلالة الدّوليّة. ويبلغ سوء الإخراج جرّاء "الكلفتة" النّاجمة عن العجلة الماحقة قمّته عندما يقوم مقدّم النّدوة بإعلان حيثيّات لاتّفاق رسمي لم يُعلن عنه من قبل. ثمّ يبلغ التّناقض قمّته عندما يُثبّت ما سعى الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين إلى نفيه، وذلك بالنّظر إلى الموضوع باعتباره إستراتيجيّة أمنيّة. فهو يقول: "فالمسألة في صالح البلدين بل أقول في مصلحة الأمن القومي لكليهما .. مع وجود مصلحة اقتصاديّة واستثماريّة لمن يشارك ويستثمر .. ومن يسارع سيحصل على أفضل المواقع ..". ثمّ يبلغ التّهافت والتّداعي قمّته ليكشف عن مستوى من الانتهازيّة مارسته مصر في حقّ الشّعب السّوداني مرّات ومرّات وذلك كلّما واتتها الفرصة، ولا تُلام في ذلك طالما كانت تستخدم أذرعة سودانيّة ورسميّة. يقول محمود مراد (المصري ـ لاحظ!): أضيف إلى أنّه إذا كانت هناك رغبة وإرادة لتنفيذ منطقة التّكامل هذه .. فلا بدّ من الإسراع، وأنا أدعو هنا القطاع الخاصّ للتّحرّك الفوري قبل أن يفوت الوقت ونقول ’يا ليتنا‘ ونفاجأ بآخرين هجموا عليها ...".

ولكم صدق في قوله هذا مع ما فيه من درجة عالية من الانتهازيّة؛ فإذا كانت "البلد هاملة"، إذن فلنهجم عليها نحن قبل أن يهجم آخرون. إذ كيف يُلام المصريُّ على انتهازيّته في الهجوم الكاسر للإجهاز على السّودان، عندما يكون ردّ الوزير السّوداني (الصّادق عمارة) على مثل قوله ذلك: "... فهذا صحيح لكن العالم يتحرّك ونحن لا نتحرّك ..". تُرى من يعني بقوله "نحن"؟ هل يعني مصر (الدّولة المؤَمّنة) أم تُراه يعني السّودان (الدّولة المُكفّنة)؟


دعك من أرقين، فالأمر كلّه استيطان

رفع العديد من الخبراء والباحثين بالمركز صوتهم متسائلين عن الضّمانات في ألاّ تعصف متغيّرات السّياسة السّودانيّة بهذا المشروع الاستيطاني الذين نطقت به السّطور دون أن يجرؤ أحد على ذكر كلمة استيطان. فإذا لم يكن الموضوع كلّه استيطانيّاً، فكيف بالله يمكن فهم ما قاله محمود مراد: "ربّما أضيف أنّه سيجري تخطيط المنطقة وتقسيمها وتحديد مساحتها ..". وهذا القول قد يبدو متناقضاً بالإشارة إلى أنّ مساحة المنطقة هي التي بدأ بها المشروع كلّه، وهي 6.1 مليون فدّان (أو 1.6 مليون فدّان). وفي الحقيقة تتضارب الأرقام بين إفادة مسئول وآخر، مصريّاً كان أم سودانيّاً. لكن تبقى الحقيقة في أنّ المنطقة المقصودة هي الحوض النّوبي والذي تفوق مساحته العشرة مليون فدّان "جاهزة"، باستخدام ألفاظ الوزير الصّادق عمارة. فالمساحة التي ذُكرت هي نقطة البداية، حيث من المخطّط أن تتوسّع لتشمل مساحات أخرى.

في هذا، تُذكر قرية أرقين للتّمويه، مع أنّها معنيّة بجزء خطير في هذا المخطّط، إذ إنّها هي التي ستكون حاضرة المستوطنة المصريّة داخل الأراضي السّودانيّة، وذلك لسهولة حمايتها بحكم أنّها "... تقع على حدود مصر مباشرةً بمسافة عدّة أمتار"، باستخدام ما نُسب من ألفاظ لوزيرنا الصّادق عمارة. ويقول محمود مراد عن الخطط المصريّة لأرقين المسكينة: "وإنّ أرجين يمكن إعادة تخطيطها لتكون مدينة حاكمة للمنطقة، أو المركز الحضاري لها يضمّ الخدمات الرّئيسيّة المختلفة من مستشفيات ومدارس وبنوك ومراكز ثقافيّة وتجاريّة وترفيهيّة وغيرها .. علاوة على ما يمكن أن ينشأ وسط هذه المساحة الضّخمة من تجمّعات سكنيّة بخدمات ...".

ويخلق هذا القول لبساً مقصوداً، إذ يُشير في ظاهره إلى أنّ قرية أرقين موجودة على الأرض، الأمر الذي يُتيح لنا أن نُعيد تخطيطها. لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع أنّ أرقين القرية تقبع تحت عشرات الأمتار في عمق البحيرة، وعلى الشّاطئ لا توجد الآن إلاّ الأرض اليباب، والتي لا تزيد رقعتُها عُرضاً عن مئات الأمتار، وذلك لأنّها تقع داخل مثلّث سرّة، أي النّتوء الذي يعلو مدينة وادي حلفا فوق خط العرض 22 درجة. وللعلم، كلّ هذا المثلّث وأزيد (أي إلى جنوب خط 22 درجة) لا تزال مصر تحتلّه منذ عشرات السّنوات وإلى الآن. وعلى أيٍّ، فمثل هذه المنطقة لا يُعاد تخطيطها، بل يُشرع في تدشين تخطيطها. ولهذا نرى أنّ الكلام يشير بوضوح إلى الخطّة الاستيطانيّة، أللهمّ إلاّ إذا أراد لنا المسئولون أن نرى الله عزّ وجلّ كيما نؤمن به. ثمّ لماذا يتكلّم القوم المؤتمرون عن أنّه: "... سوف توجّه الحكومة السّودانيّة ـ عن طريق وزارة الزّراعة وفق ما قال الدّكتور صادق عمارة ـ دعوات رسميّة إلى كلٍّ من: الدّكتور مهندس محمّد إبراهيم سليمان وزير الإسكان والمرافق العامة والمجتمعات العمرانيّة، والدّكتور مهندس محمود أبو زيد وزير الموارد المائيّة والرّي، والسّيدة فايزة أبو النّجا وزيرة التّعاون الدّولي، والمهندس أحمد الليثي وزير الزّراعة، والدّكتور عصام شرف وزير النّقل وإلى عدد من المسئولين لزيارة منطقة أرقين الشّهر القادم وتفقّدها والاتّفاق على خطوات تنفيذيّة للمشروع ...". أنظروا كيف تحوّلت قرية أرقين الصّغيرة هنا إلى "منطقة".
يتبع..
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (8)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

ثمّ فلننظر كيف تكشف لنا خائنةُ الألسن ما تواطأ علي كتمانه القوم المؤتمرون. فالسّيدّ محمود مراد لا يتكلّم عن تجمّع سكني واحد هنا، حتّى نحسن به الظّنّ فنعتقد أنّه يتكلّم عن أرقين، القرية الصّغيرة التي ابتلعتها أمواه بحيرة النّوبة. يا سادتي الرّجل يتكلّم عن تجمّعات سكنيّة يمكن أن تنشأ في هذه المساحة الضّخمة. فإذا كانت أرقين غير موجودة على الأرض، عليه يمكن لأيّ كائنٍ أن يستخدم اسم "أرقين" ليعني به كلّ المنطقة الممتدّة من حلفا صعوداً إلى دنقلا جنوباً ثمّ نزولاً بزاوية منحرفة شمال غرب إلى جبل عوينات، ثمّ إلى حلفا مرّة أخرى. فمن الذي يمكنه أن يثبت أنّ هذه المنطقة ليست أرقين طالما أنّه لا توجد أصلاً أرقين. فأرقين الأصليّة غير موجودة على الأرض. ولكن ماذا عن الضّمانات؟ هذا ما سنراه أدناه.

الضّمانات ... الضّمانات!

تجاوب صدى "الضّمانات" بين أركان النّدوة المحضورة في مركز الأهرام، وقد تركّزت بشكل خاص حول "مدّة الانتفاع" بالأرض، وكيفيّة جعله "ملكيّة الأرض". وقد استندت الشّرعيّة الرّسميّة على ما يُعرف باتّفاقيّة الحريّات الأربع، التي داوم العديد من المؤتمرين على الاستشهاد بها, من ذلك مثلاً ما قاله الدّكتور حلمي الحديدي: "إنّ مصر والسّودان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً وينبغي تدعيم هذا وتعميقه رسميّاً وشعبيّاً .. ومن هنا فإنّني أتحفّظ على مسألة ’حقّ الانتفاع‘ وأرجو أن تُفكّر الحكومة السّودانيّة في حقّ التّمليك وفق اتّفاق الحريّات الأربع .. ثم ما هي الضّمانات للاستمرار بهذا الحماس وعدم حدوث مخاطر للاستثمار؟! ونقطة ثالثة فإنّني أرجو أن تكون هذه المنظقة للتّكامل المصري السّوداني لمشروعات مصريّة سودانيّة فقط دون دخول مستثمرين آخرين ..".

إذن فلا بدّ من تدعيم هذه العلاقات الأزليّة رسميّاً وشعبيّاً! حسناً، لكن حتّى الآن لم يأت ذكر لأيّ مستثمر سوداني، دع عنك أهل الأرض المغيّبين. وقد صدقت مجموعة العمل النّوبي عندما قالت في مذكّرتها بأنّ الموضوع كلّه قد أُبرم بليلٍ دون أن يُشار فيه إلى النّوبيّين ولو من قبيل المجاملة (هذا باستثناء الإشارة المنسوبة للوزير الصّادق عمارة إلى أنّ منطقة أرقين بها تجمّعات قبائل نوبيّة، كما لو كانوا من شُذّاذ الآفاق).

ولا ندري هل قام السّيّد الوزير (حينها) الصّادق عمارة بتصحيح معلومة أنّ الدّولة في السّودان لا تملّك الأرض المستثمرة زراعيّاً، إن هي إلاّ حيازة منفعة لأجلٍ معلوم، أم لا. ولننظر إلى هذا الجشع المصري الذي لا يعرف الشّبع؛ فاتّفاقيّة الحريّات الأربع ساوت بين المصري والسّوداني من حيث مدّة الانتفاع بالأرض الزّراعيّة للاستثمار، ولكنّ القوم يريدون أكثر من ذلك؛ يريدون فرماناً من الباب العالي بملكيّة الأرض لتكرار سيناريو إسرائيل والفلسطينيّين، وهذا كلّه تحت دعاوى تمتين العلاقات والصّلات شعبيّاً ورسميّاً. ومع هذا لا نجد ذكراً لأهل الأرض الأصليّين. ثمّ يزداد الجشع الذي لا يعرف الحدود (أو الاختشا)، فإذا بالقوم يُطالبون بأن ينكفئ المشروع على السّودانيّين والمصريّين فقط فلا يدخل ثالث بين التّفّاحة وقشرتها. وتكمن النّكتة هنا في أنّه إذا كان السّودانيّون أهل الحقّ المطلق في هذا الأمر لم يتمكّنوا من الدّخول، فكيف بالله يتمكّن الآخرون من ذلك؟ لكن الموضوع ليس بهذه البساطة، فهو يعني بالنّسبة للمصريّين (بكلّ بساطة ـ باستخدام الألفاظ المنسوبة إلى الوزير الصّادق عمارة) الآتي: الآن وقد ضمنّا إبعاد أيّ سوداني من المشروع، علينا استخلاص الضّمانات بألاّ يُسمح لأيّ جهة أخرى غير مصريّة (ليبيّة مثلاً) بالدّخول في هذا الموضوع. هنا يتدخّل عرّاب النّدوة السّيّد محمود مراد مقدّماً ضمانات لا نعلم مصدر التّخويل أو التّفويض فيها، وهو المصري وليس السّوداني: "بالنّسبة للتّمليك، فهذا يُدرس وفي رأيي فإنّه سيتقرّر [كذا] ولكن المتاح الآن ليس مُضرّاً [كذا] فإنّ حقّ المنفعة [القائم على مساواة حقّ المواطن المصري بالسّوداني] يتجدّد ويمكن النّصّ على هذا، وبالنّسبة للضّمانات فهذا حقّ وللمستثمر أن يطلب ما يشاء [كذا] من ضمانات قانونيّة وضدّ مخاطر الاستثمار ... أمّا عن اقتصار المنطقة على المشروعات المصريّة السّودانيّة فقط فهذا صحيح ولذلك ندفع بالمستثمرين .. لكن إلى متى؟".

لكن هذا ما قال به القوم الجِشاع؛ تُرى ماذا قال وزيرنا إن كان قد قال شيئاً؟ هنا إسمحوا لي، سادتي، أن أنقل إليكم ما أورده موقع مركز الأهرام بخصوص هذه الجزئيّة نقل مسطرة. بعد حديث محمود مراد أعلاه، وتقديمه لهذه الضّمانات المجّانيّة باسم حكومتنا الموقّرة، جرى الحديث على النّحو التّالي:

الدّكتور صادق عمارة: أضيف إلى ما قاله الأخ محمود .. إنّ حقّ الانتفاع يمكن أن يمتدّ لمدّة تسعة وتسعين عاماً .. وأقول إنّ زراعة أراضي هذه المنطقة غير مكلّف ـ وأنا فلاّح ودارس للزّراعة ـ إذ يمكن أن نزرعها فوراً .. وعن اقتصارها على مشروعات مصريّة وسودانيّة فهذا صحيح لكن العالم يتحرّك ونحن لا نتحرّك ..

أشرف عبادة: ربّما يكون من الأوفق تأسيس شركات مصريّة سودانيّة مشتركة للعمل ..

صلاح الملّيجي: كنتُ أودّ التّركيز على موضوع الضّمانات ..

الدّكتور صادق عمارة: الضّمانات القانونيّة موجودة ومستعدّون لأيّ ضمان .. وأكرّر أنّنا سنتكفّل بكلّ الطّرق الرّئيسيّة والفرعيّة وبشبكة الكهرباء .. وشبكة الرّيّ .. وأكرّر أنّ حقّ الملكيّة ستكون للمصريّ مثل السّوداني. ومثلاً فإنّ حقّ ملكيّة المنفعة لغير السّوداني تكون في حدود ثلاثين سنة .. أمّا بالنّسبة للسّوداني والمصري ـ مثله ـ فهي في حدود خمسين سنة ويمكن أن تكون تسعاً وتسعين سنة .. والسّعر يكاد يكون مجّاناً ..
انتهت الحلقة (8) .
صورة العضو الرمزية
الدهمشي
مشاركات: 3185
اشترك في: الجمعة 2010.8.13 1:39 pm
مكان: سلطنة عمان

رد: العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع (8)

مشاركة بواسطة الدهمشي »

السودان يبااااااااااااااااااع ياناس
برق خاطف
مشاركات: 315
اشترك في: الأربعاء 2011.4.13 9:27 am
مكان: العالم العربي

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع(9)

مشاركة بواسطة برق خاطف »

السلام علي كل سوداني مخلص ورحمة الله تعالي وبركاته
السطور التالية هي الحلقة (9) .
العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع

(9)

مصر المؤمّنة أولاً ... ثمّ بعد ذلك يأتي السّودان

إذن يا سادتي فقد ساوت حكومتنا بين السّوداني والمصري، إلاّ أنّ المصري يطلب أكثر من ذلك، وحكومتنا تعده بإعادة النّظر بعين العطف. أكثر من ذلك ستقوم حكومتنا من مال دافعي الضّرائب بتمويل المشروع من طرق رئيسيّة وفرعيّة وشبكة ريّ، ثمّ شبكة كهرباء، كلّ ذلك لصالح المواطن المصري (المغلوب على أمره)، ودون أن يكون للمواطن السّوداني أيّ عائد من هذا المشروع "الضّخم" (باستخدام ألفاظ العديد من الخبراء المصريّين بالنّدوة).


لا أفارقة بعد اليوم ... مصريّون ... مصريّون!

وهذا قولٌ هتافيٌّ كان أغنانا عنه لو أنّ ساستَنا أطاعوا الله فينا. وما كنّا لنقف عند هذا لولا أنّنا رأينا الأمر كما لو كان منسّقاً بين العديد من الجهات الرّسميّة وغير الرّسميّة. فبعد حديث الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين (وزير الدّاخليّة) بحوالي الشّهر، أي تحديداً في يوم الأحد 8 فبراير 2005م الموافق 17 ذا الحجّة 1424هـ طالعتنا جريدة الرّأي العام [عدد 2351، ص 9] بالحلقة الأولى من مقال للأستاذ محمّد سعيد محمّد الحسن بعنوان: الوجود المصري المكثّف يصوّب الخطأ الفادح ويعيد التّوازن السّكّاني .. التّسريع بتفعيل "الحرّيّات الأربع" بوادي النّيل، والعنوان وحده يشي بمحتواه لدرجة ربّما ما كانت لتحوجنا إلى التّعليق عليه. ومع ذلك لا بأس من الإشارة لبعض الفقرات المحوريّة التي اشتمل عليها هذا المقال العجيب الذي أغضب النّوبيّين حتّى زعم البعض منهم أنّه يشتمّ فيه رائحة العمالة.

بالطّبع يبدأ المقال بالتّعويل على اتّفاقيّة الحريّات الأربع، وتحديداً للانطلاق منها لتسويغ استيطان ملايين المصريّين ليس بشمال السّودان فحسب بل في مناطق أخرى، بالضّبط مثلما نُسب للسّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين. ويستخدم الكاتب في ذلك صياغات خطابيّة مصريّة عند تناول الشّأن السّوداني من قبيل (وادي النّيل)، (الجنوب) لدى الإشارة إلى السّودان، مغلّفاً أهدافه بورق الكلام الأصفر. نقرأ في المقال: "إنّ التّداخل البشري بين شطري وادي النّيل ينبغي أن يأخذ الأسبقيّة الأولى لأنّه ضروري للجنوب بمثلما هو ضروري للشّمال فهو عصب العمليّة التّكامليّة والوحدويّة على حدٍّ سواء لأنّ التّواصل الإنساني والتّعامل المباشر وحده يؤمّن الجسر المشترك ويقوّي الوشائج ولتسهيل هذا الجانب فينبغي التّعجيل برصف طريق بورسودان ـ السّويس (نحو 280 كيلو متراً) أي أقلّ من المسافة بين الخرطوم وعطبرة الذي تقطع الآن في أقلّ من أربع ساعات وهذا وحده كفيل بتحقيق حلم ظلّ على مدى حقب بعيدة يراود أهل شطري وادي النّيل وسيجعل الانتقال سهلاً وممكناً ومتاحاً للجميع ...".

ولننظر إلى القوم كيف يستكثرون على أنفسهم كبر مساحة السّودان، كأنّما لو كانوا غير جديرين بها، بل أولى بمثل هذه المساحة الرّحيبة الجارة العزيز، مصر المؤمّنة. وفي الحقيقة هذا الكلام لا علاقة له بكلام أهل السّودان البسطاء، ممّن حباهم الله رجاحة العقل باعتبارها حسّاً عاماً لا يحتاج إلى شهادات أو مدارس. كما لا يشبه كلام أهل السّودان من كتبة الصّحف عموماً إلاّ في استخدامه لإزميل فدياس في تدمير تماثيل الكلام بدلاً من نحتها به. لاحظوا خلوّ المقال من حركات التّرقيم من نقطة وشولة، إلخ، فضلاً عن ركاكة مركّبة لا يمكن للكاتب (وقد سلخ أكثر من أربعة عقود في مهنة الصّحافة، فتصوّر!) أن يعرف منها فكاكاً حتّى لو استقبل من أمر تعليمه ما استدبر، ولله في خلقه شئون. فلننظر يا سادتي إلى هذا القول النُّكْر: "... فلدى السّودان موارد هائلة وأرض شاسعة وممتدّة خصبة وثريّة ولدى مصر خبرات وإمكانيّات ضخمة ولكن الأرض الزّراعيّة في مصر ظلّت منذ عهد الفراعنة محدودة ولم تتجاوز الخمسة ملايين فدّان واستطاع الفلاّح المصري بالخبرة المتوارثة والقدرات المتعدّدة المتاحة المثابرة على الزّراعة وتكثيف الإنتاج لتغطية احتياجات سكّان مصر الذين ارتفع تعدادهم من 25 مليون نسمة في حقبة الخمسينات إلى 70 مليون نسمة مع مطلع الألفيّة الثّالثة وتمكّنت الدّولة المصريّة من قهر الصّحراء وشقّ القنوات ومدّها بالمياه واستصلاح الأراضي عبر جهد خارق وأموال طائلة ولكن كلّه لم يحقّق سوى مليوني فدّان واتّسعت المساحة إلى سبعة ملايين فدّان ومثل هذه الفدادين توجد أضعافها في الشّمال والوسط وفي الشّرق وبوجه خاص منطقة طوكر، والسّودان يمتلك أراضي زراعيّة ذات خصوبة عالية ... إنّ الأراضي الخصبة في السّودان تعوزها الأيدي الزّراعيّة ذات الخبرة والدّراية والتي بمقدورها تحويل الأرض من تراب إلى تبر وليس هنالك أفضل ولا أكفأ من الخبرة المصريّة العريقة المتمثّلة في الفلاّح المصري ولكن قدوم المصريّين لن يتيسّر بالكلام الطّيّب ولا بالتّمنّيات ولا بوجود مثل هذه الأراضي الجيّدة الثّريّة إنّما بتوفير الاحتياجات والخدمات الضّروريّة من المياه النّقيّة والكهرباء والتّعليم والعلاج والسّكن والأسواق في المناطق المعدّة للزّراعة وإيجاد الصّيغة الملائمة والجاذبة للتّمليك أو الشّراكة للقوى المنتجة، إنّ دولاً مثل تونس والعراق أعطتهم الأرض والسّكن مجّاناً للوصول إليها والتّفرّغ للزّراعة".
يتبع ..
أضف رد جديد

العودة إلى ”اخبار السودان“