كل الشعوب والأمم تعتز بأسلافها الخيّريين وتقتبس
من نورهم، وتفتخر برموزها السامية الطيبة ومن ثَمّ
تتأسى بخطوهم، إلا نحن؛ معشر النوبيين رغم أننا من
صناع التاريخ المشرق، ومن الذين وضعوا اللبنات
الأولى في صرح الحضارة البشرية فكان مداكهم
واضحا جليا في هذا الصرح. وفي هذه العجالة سأتناول
رموزا ولجوا التاريخ من أشرف أبوابه وأجلّ مداخله
فخلدوا في صفحاته العطرة، وهي أسلافنا النوبيون
والنوبيات. ومن الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه
الأسطر تساؤل البعض: هل في صحابة رسول الله
(صلّى الله عليه وسلّم) والتابعين وبقية القرون
الخيرة نوبيون؟ الإجابة بنعم لا تحتاج إلى تفكير أو
اجتهاد. فالنوبيون لهم دورهم الخالد في تاريخ البشرية
كسائر الأمم السباقة، ثم إسهامهم في الحضارة
الإسلامية الشامخة، إلا أننا – كما أسلفت – أزهد الناس
في معرفة أسلافنا، وربما أجهلهم بتاريخنا المشرق
المشرِّف. فدعونا إذن نستهل هذه الكوكبة منذ فجر
التاريخ، وقبل الرسالة الخاتمة.
أولا: للنوبيين مصاهرات يعتزون بها، فقد أصهر إليهم
بعض صفوة البشر من رسل الله وأنبيائه المصطفين
الأخيار. فقد أورد الشيخ الأستاذ الدكتور حسن الفاتح
قريب الله (رحمه الله) في سفره القيم (السودان دار
الهجرتين) ص13 نقلا عن التوراة أن أبا الأنبياء
إبراهيم (عليه السلام) تزوج امرأتين من بلاد النوبة؛
إحداهنّ هاجر أم إسماعيل والأخرى قاطورا، وأشار
إلى الجزء الأول د. علي شريعتي في كتابه ( الحج:
فلسفة المنسك والمعنى). فالنوبيون هم أصهار أبي
الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) وأخوال أبي العرب
المستعربة إسماعيل (عليه السلام). ولهم الفخر بهذا
الصهر النَّسيب، ولهم العز كل العز بتلك الخؤولة
المشرّفة. كما ذكرت التوراة في ترجمتها الإمريكية
( العدد 12/1 ـــــــ16) أنّ كليم الله موسى
(عليه السلام) اتخذ زوجة كوشية ولها قصة مفصلة
في التوراة، وذكرتها بالتفاصيل في بحث آخر، وهذا
صهر لا يفرط في مثله.
ثانيا: ثمة شخصية نوبية ولجت تاريخ الخلود البشري
فخلدها الله في كتابه الكريم المتلو أبدا؛ تلكم الشخصية
فخر لكل النوبيين؛ إنه لقمان عليه السلام. فنوبية لقمان
(عليه السلام) مرجحة في أمهات الأسفار الإسلامية،
وعند ثقاة المؤرخين الذين لا يتطرق إليهم شك،
وقد أفردت بحثا خاصا لهذا الأمر وتناولته بتفصيل،
لكني سأشير هنا إلى بعض المصادر التي ذكرت أو
رجحت نوبيته (عليه السلام) على الانتماءات الأخرى.
فمن هؤلاء الثقات الإمام ابن كثير في تفسيره المشهور
وفي سفره القيم (البداية والنهاية، وذكر ذلك الإمام
السيوطيّ في تفسيره المعروف (الدر المنثور) وأفرد
له الإمام ابن الجوزى عنوانأ فى كتابه القيم (تنوير
الغبش) (رحمهم الله جميعا) كما ورد ذلك فى تاريخ
أبى الفدا ومسالك ابن فضل الله العمرى نقلاً عن
البيهقى فى كتاب (مفاخر النوبة) و خريدة ابن الوردىّ
وصبح القلقشنديّ والحميرىّ فى روضه المعطار.
وقد ذكرت بتفاصيل مصادر أخرى في البحث
المشار إليه.
ثالثأ : نأتى إلى الدين الخاتم ونتبرك بكلام أفضل
الخلق وسيد البشرية سيدنا محمد (صلى الله عليه
وسلم ) الذى يقول فيما يرويه الإمام السيوطىّ فى
جامعه الجزء الرابع (خير الناس العرب) إلى أن
يقول (وخير السودان النوبة) كما أورد ياقوت فى
معجمه وابن الفقيه فى مختصره والقزويني فى
آثاره نصين شريفين عن الرسول (صلى الله عليه
وسلم) الأول: (خير سبيكم النوبة) والثاني:
(من لم يكن له أخ فليتخذ أخأ من النوبه). ومن
الأحادبث المشهورة عن سعيد بن المسيب
(رحمه الله) : "كان من أخير الناس ثلاثة من
السودان: بلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب
(رضي الله عنهم) ولقمان الحكيم (عليه
السلام)" والحديث في البداية والنهاية للإمام
ابن كثير وفي الدر المنثور للإمام السيوطي
(رحمهما الله)، وفي رواية ابن عساكر في
نفس المصدر أربعة: وأضاف النجاشيّ
(رضي الله عنه) . كما روى الإمام ابن
الجوزي: سادات السودان
أربعة: لقمان ومهجع وبلال والنجاشي. وورد
الحديث بلفظ مقارب في جامع الإمام السيوطي
ج1 بلفظ: ثلاثة من سادات الجنة.. نأتي إلى
التفاصيل:فقد كان مهجع (رضي الله عنه)
مولى نوبيا لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ،
وقد ثبّت ذلك الإمام الثبت الحافظ بن
حجر العسقلاني في كتابه الضافي (الإصابة في
تمييز الصحابة) فقال (رحمه الله) : كان مهجع
مولى نوبيا لعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما).
وقد اكتسب هذاالشرف وتلك السيادة من كونه
(رضي الله عنه) أول قتيل مسلم في غزوة بدر
الكبرى. ونوبية بلال ((رضي الله عنه)) بن حمامة
(اسم والدته) ذكرها صاحب المختصر وصاحب
خريدة العجائب. بل إن القس فيلوثاوث فرج أورد
نوبية النجاشي في كتابه النوبة وطن الذهب ص 192
. وقد كتب كما أشرنا سلفا د. قريب الله كتابا بعنوان:
السودان دار الهجرتين الأولى والثانية للصحابة.
وساق الأدلة والبراهين التي تؤكد ما ذهبنا إليه.
وقد ذكر د. حسن الشايقيّ في رسالته عن
يزيد بن حبيب نقلاًعن ابن حجر في الإصابه ج6 فقال:
ومن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راع
نوبيّ قتله العرنيون ثبت ذكره فى الصحيحين غير
مُسمّى في حديثهما، وسُمِّىَ فى حديث سلمه بن الأكوع.
وفى حديث الطبرانى يقول : كان للنبى (صلّى الله عليه
وسلّم) غلام يقال له يسارنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه
وبعثه (صلّى الله عليه وسلّم) في لقاح له بالحرة ، فاظهر
قوم من عرينة الإسلام وجاءوا وهم مرضى وقد عظمت
بطونهم فبعث بهم إلى يسار فكانوا يشربون ألبان الإبل ثم
عدوا إلى يسار فقتلوه وجعلوا الشوك فى عينه. وأضاف
د. حسن الفاتح نقلاً عن ابن عبد البر فى كتابه الاستيعاب
ج 1 أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ثأر له بعد أن
أدرك قاتليه وأثبت صاحب الإصابه فى ترجمة
أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أبا لقيط وقال
: كان عبداً نوبياً أو حبشيا، وذكر صاحب الإصابة ج 8
بعض الصحابيات النوبيات منهن فضة النوبية جارية
فاطمة الزهراء (رضي الله عنهم). وذكر خادم النبي
(صلّى الله عليه وسلّم) واسمها نوبة وقد ورد أسمها
في حديث عائشة: قالت مرض النبى (صلّى الله عليه
وسلّم) فاشتد مرضه ،فوجد فى نفسه خفه فخرج بين
بريرة ونوبة، وثمة جارية نوبية أخرى كانت
لأم الشريد ذكرها ابن حجر في الجزء 13 من الإصابة
فى تمييز الصحابة. هؤلاء بعض من صحبوا رسول الله
(صلّى الله عليه وسلّم) وتشرفوا بخدمته وخدمة آَل بيته
الأطهار .. هذه بعض خرزات المسبحة الطيبة من الخيرين
من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ولم اتعرض
لذكر البقية من هذا العقد الفريد من بقية السودانين . وهو
بحث ممتع أتركه لغيري. ومن القرون الخيرة أذكر علي
سبيل التمثيل يزيد بن أبي حبيب الدنقلاويّ؛ وكان يقول :
كان أبي من سبيّ دنقلة. وقد سطر د. حسن على الشايقى
كتاباً موثقا عنه وهو رسالة دكتوراة في سيرة هذا الرجل
نقتبس منه ما يأتى : فيزيد بن حبيب الدنقلاويّ من الشيوخ
الثقاة الذين رووا عنه أئمه الحديث النبويّ ومنهم البخاري
ومسلم . بل أن يزيداً وتلاميذه رووا ثمن الصحيحين .
أما يزيد وحده فقد ذكر د. الشايقى بأن له 26 حديثاً في
البخارى و39 فى مسلم ومثلها فى أبى داؤد و34 في
النسائي و41 في ابن حاجه و20 في الدارميّ و149
في ابن خليل و54 في صحيح ابن حبان أى أن مسنده
423 حديثاً فى أمهات كتب الحديث، أما احاديثه مع
تلاميذه في الصحيحه فـ 908 في البخارى و802
حديثاً في مسلم.اهـ ص116 وقد كان ضمن
ثلاثه جعلهم الخليفة الراشديّ عمر بن عبد العزيز
مسؤلين عن الفتيا في مصر .لا تتعجب ولا تلجمك الدهشة
حينما علمت أن أحد شيوخ الإمام البخاري وغيره
من الأئمة عليهم جميعا رحمة الله دنقلاوي وذكر ذلك بنفسة،
ولا يتطرق شك إلى كلام من روى عنه الشيخان، بل السبعة
وغيرهم.هذه بعض حبات العقد الفريد من خيرة الرجال
وفضليات النساء وقد تركت إلى غيري عشرات الحبات من
العقد السودانيّ بصفة عامة، حتى فيهم النبيّ
كم في السير.فارفع رأسك واعتز بلقمان وبلال ومهجع ويزيد،
فهؤلاء هم أسلافك، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى بحثنا
المطول، فضل النوبيين من أسوان إلى مجمع البحرين.
والله الموفق
