فصل
في إعجاز القرآن ... (الوجه الأول)
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله
اعلم وفقنا الله و إياك أن كتاب الله العزيز منطوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة ، و تحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه :
أولها : حُسن تأليفه ، و التئام كَلِمِهِ ، و فصاحته ، و وجوه إيجازه ، و بلاغته الخارقة عادة العرب ، و ذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، و فرسان الكلام ، قد خُصُّوا من البلاغة و الحكم بما لم يُخَصَّ به غيرهم من الأمم ، و أُوتوا من ذَرَابةِ(1) اللسان ما لم يُؤت إنسان ، و من فضل الخطاب ما يقيِّد الألباب جعل الله لهم ذلك طبعاً و خِلقة ، و فيهم غريزة و قوة ، يأتون منه على البديهة بالعَجَب ، و يدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات ، و شديد الخطب ، و يرتجزون به بين الطعن و الضرب ، و يمدحون و يقدحون ، و يتوسلون و يتوصلون ، و يرفعون و يضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، و يطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللَّآل ، فيخدعون الألباب ، و يذللون الصعاب ، و يذهبون الإحن(2) و يهيجون الدِّمَن ، و يُجرِّئون الجبان ، و يبسطون يد الجَعْد البنان(3) و يُصيِّرون الناقص كاملاً و يتركون النبيه خاملاً .
منهم البدوي ذو اللفظ الجَزْلِ(4) و القول الفصل ، والكلام الفخم ، و الطبع الجوهري ، و المنزع القوي .
و منهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، و الكلمات الجامعة ، و الطبع السهل ، و التصرف في القول القليل الكفلة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية .
و كلا البابين لهما في البلاغة الحُجة البالغة ، و القوة الدامغة ، و القِدْح الفالج (5) و الـمَهْيَع الناهج (6) ، لا يَشُكُّون أن الكلام طوع مرادهم ، و البلاغة ملك قيادهم ، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها ، و دخلوا من كل باب من أبوابها ، و علوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير و المهين ، و تفننوا في الغث و السمين ، و تقاولوا في القل و الكثر ، و تساجلوا(7) في النظم و النثر ، فما راعهم إلا رسول كريم ، بكتاب عزيز (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أُحمكت آياته ، و فُصلت كلماته ، و بهرت بلاغته العقول ، و ظهرت فصاحته على كل مقول ، و تظافر إيجازه و إعجازه ، و تظاهرت حقيقته و مجازه ، و تبارت في الحسن مطالعه و مقاطعه ، و حوت كل البيان جوامعه و بدائعه ، و اعتدل مع إيجازه حُسن نظمه ، و انطبق على كثرة فوائده مختار لفظه ، وهم أفسح ما كانوا في الباب مجالاً ، و أشهر في الخطابة رجالاً ، و أكثر في السجع و الشعر سجالاً ، و أوسع في الغريب و اللغة مقالاً ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، و منازعهم التي عنها يتفاضلون ، صارخاً بهم في كل حين ، و مقرِّعاً لهم بضعاً و عشرين عاماً على رؤوس الملأ أجمعين : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) .
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً)
(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) و ذلك أن الـمُفترى أسهل و وضع الباطل و الـمُختلق على الاختيار أقرب ، و اللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ، و لهذا قيل : فلان يكتب كما يقال له ، و فلا يكتب كما يريد .
و للأول على الثاني فضل ، و بينهما شأو بعيد .
فلم يزل يقرِّعهم صلى الله عليه و سلم أشد التقريع ، و يوبخهم غاية التوبيخ ، و يسفه أحلامهم ، و يحط أعلامهم ، و يشتت نظامهم ، و يذم آلهتهم و إيَّاهم ، و يستبيح أرضهم و ديارهم و أموالهم ، و هم في كل هذا ناكصون عن معارضتيه ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب و التكذيب ، و الإغراء بالإفتراء ، و قولهم : إن هذا إلا سحر يؤثر ، و سحرٌ مستمر ، و إفك افتراه ، و أساطير الأولين ، و المباهتة و الرضا بالدنِّية ، كقولهم : قلوبنا غلف , و في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . و لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
و الادعاء مع العجز بقولهم : (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
و قد قال لهم الله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فما فعلوا و لا قدروا . و من تعاطى ذلك من سُخفائهم كمسيلمة كشف عُواره(8) لجميعهم ، و سلبهم الله ما ألِفوه ، من فصيح كلامهم ، و إلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، و لا جنس بلاغتهم ، بل ولَّوا عنه مدبرين ، و أتوا مذعنين من بين مهتد و بين مفتون .
و لهذا لما سمع ال وليد بن مغيرة من النبي صلى الله عليه و سلم :
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
قال : و الله ، إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوةً ، و إن أسفله لمغدق ، و إن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .
و ذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ :
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فسجد ، و قال : سجدت لفصاحته .
و سمع آخر رجلاً يقرأ :
(فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)
فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .
و حُكي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، و استخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب و غيرها ، و أنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا هي قد جُمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا و الآخرة ، و هي قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)
و حكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أو يعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين ، و خبرين ، و بشارتين .
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته ، غير مضاف إلى غيره على التحقيق و الصحيح من القولين .
و كون القرآن من قِبَل النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه أتى به معلوم ضرورة ، و كونه صلى الله عليه وسلم متحدياً به معلوم ضرورة ، و عجز العرب عن الإتيان بع معلوم ضرورة ، و كونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة و وجوه البلاغة ، و سبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المفكرين من أهلها عن معارضته و اعتراف المفسرين بإعجاز بلاغته .
و أنت إذا تأملت قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
و قوله : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) .
و قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .
و قوله : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
و قوله : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
و أشباهها من الآي ، بل أكثر القرآن حققت ما بينته من إيجار ألفاظها ، و كثرة معانيه ، و ديباجة عبارتها ، و حُسن تأليف حروفها ، و تلاؤم كلمها ، و أن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة ، و فصولاً جمة ، و علوماً زواخر ، مُلئت الدواوين من بعض ما استُفيد منها ، و كثرت المقالات في المستنبطات عنها .
ثم هو في سرده القصص الطوال ، و أخبار القرون السوالف ، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام ، و يذهب ماء البيان آية لمتأمله ، من ربط الكلام بعضه ببعض ، و التئام سرده ، و تناصف وجوهه ، كقصة يوسف على طولها .
ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تنسي في البيان صاحبتها ، و تناصف في الحسن وجه مقابلتها ، و لا نفور للنفوس من ترديدها ، و لا مُعاداة لمعادها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذَرَابةِ : حذقة
(2) الإحن :جمع إحنة وهي الحقد
(3) الجَعْد البنان : البخيل
(4) الجزل :خلاف الركيك
(5) القِدْح الفالج : السهم قبل أن يراش ويجعل فيه نصل , والفالج : الفائز
(6) الـمَهْيَع الناهج : المهيع : الطريق , الناهج : السالك
(7) تساجلوا : أي تفاخروا
(8) عُواره : في الصحاح العوار : العيب