الشذى العباق ودوحة الأشواق

يشمل المواضيع والمشاركات الاسلامية

المشرف: بانه

صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في معنى تسمية من جاءت به الأنبياء معجزة
اعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة ، هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها ، و هي على ضربين :
ضربٌ هو من نوع قُدرة البشر ، فعجزوا عنه ، فتعجيزهم عنه فِعلٌ لله دلَّ على صدق نبيه ، كصرفهم عن تمني الموت , و تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على رأي بعضهم ، و نحوه .
و ضربٌ هو خارج عن قدرتهم ، فلم يقدروا على الإتيان بمثله ، كإحياء الموتى ، و قلبِ العصا حيَّة ، و إخراج ناقة من صخرة ، و كلام شجرة ، و نبع الماء من الأصابع ، و انشقاق القمر ، مما لا يمكن أن يفعله أحد ، إلا الله ، فكون ذلك على يد النبي صلى الله عليه و سلم من فِعلِ الله تعالى و تحدِّيه من يكذِّبهُ أن يأتي بمثله تعجيزٌ له .
و اعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا صلى الله عليه و سلم دلائل نبوَّته و براهين صدقه , من هذين النوعين معاً ـ
و هو أكثر الرسل معجزةً ، و أبهرهم آيةً، و أظهرهم برهاناً ، كما سنبيِّنه ، و هي ـ في كثرتها ـ لا يحيط بها ضبط ، فإن واحداً منها ـ و هو القرآن ـ لا يُحصى عدد معجزاته بألف و لا ألفين ، و لا أكثر ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد تحدى بسورة منه فعُجز عنها .
قال أهل العلم : (إنا أعطيناك الكوثر) فكل آية أو آيات منه بعددها و قدرها معجزة ، ثم فيها نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات .
ثم معجزاته صلى الله عليه و سلم على قسمين :
قسم منها عُلِمَ قطعاً ، و نُقل إلينا متواتراً كالقرآن ، فلا مِرْيَة ، و لا خلاف ، بمجيء النبي به ، و ظهوره من قِبَلِهِ ، و استدلاله بحُجَّته ، و إن أنكر هذا معاندٌ جاحد ، فهو كإنكاره وجود محمد صلى الله عليه و سلم في الدنيا .
و إنما جاء اعتراض الجاحدين في الحُجة به ، فهو في نفسه و جميع ما تضمنه من مُعْجز معلوم ضرورة . و وجه إعجازه معلوم ضرورةً و نظراً ، كما سنشرحه .
قال بعض أئمتنا : و يجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه صلى الله عليه و سلم آيات و خوارق عادات إن لم يبلُغ واحد منها معيَّناً القطع فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، و لا يختلف مؤمن و لا كافر أنه جرت على يديه عجائب ، و إنما خلاف المعاند في كونها من قِبَل الله .
و قد قدَّمنا كونها من قِبَل الله ، و أن ذلك بمثابة قوله : صدقت .
فقد عُلم وقوع مثل هذا أيضاً من نبينا ضرورةً لاتفاق معانيها ، كما يُعلم ضرورة جود حاتم ، و شجاعة عنترة ، و حِلم أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا، و شجاعة هذا ، و حلم هذا ، و إن كان كُلٌ خَبِر بنفسه لا يُوجب العلم ، و لا يُقطع بصحته .

و القسم الثاني ما لم يبلغ مبلغ الضرورة و القطع ، و هو على نوعين : نوع مُشتهر منتشر ، رواه العدد ، و شاع الخبر به عند المحدثين و الرواة و نَقَلَةَ السِّير و الأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، و تكثير الطعام .
و نوع منه اختص به الواحد و الاثنان ، و رواه العدد اليسير ، و لم يشتهر اشتهار غيره ، لكنه إذا جُمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، و اجتمعا على الإتيان بالـمُعجز ، كما قدمناه .

قال القاضي أبو الفضل: و أنا أقول صدعاً بالحق : إن كثيراً من هذه لآيات المأثورة عنه صلى الله عليه و سلم معلومة بالقطع :
أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ، و أخبر عن و جوده ، و لا يُعدل عن ظاهر إلا بدليل ، و جاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، و لا يوهن عزمنا خلاف أخرق مُنحَلِّ عُرَى الدين ، و لا يُلتفت إلى سخافة مبتدع يُلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل نُرغم بهذا أنفه ، و ننبذ بالعراء سَخَفه .
و كذلك قصة نبع الماء ، و تكثير الطعام ـ رواها الثقات و العدد الكثير عن ا لجماء الغفير ، عن العدد الكثير من الصحابة .
و منها ما رواه الكافَّة عن الكافَّة متصلاً عمن حدث بها من جملة الصحابة و إخبارهم أن ذلك كان في موطن اجتماع الكثير منهم في يوم الخندق و في غزوة بُواط و عُمرة الحديبية و غزوة تبوك و أمثالها من محافل المسلمين و مجمع العساكر ، و لم يُؤثر عن أحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما حكاه ، و لا إنكارٌ عمَّا ذُكر عنهم أنهم رأوه كما رآه ، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق ، إذ هم المنزهون عن السكوت على باطل ، و المداهنة في كذب ، و ليس هناك رغبة و لا رهبة تمنعهم ، ولو كان ما سمعوه منكراً عندهم و غير معروف لديهم لأنكره ، كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها من السنن و السير و حروف القرآن . و خطَّأ بعضهم بعضاً ، و وهَّمه في ذلك ، مما هو معلوم ، فهذا النوع كله يُلحَق بالقطعي من معجزاته لما بيناه .
و أيضاً فإن أمثال الأخبار التي لا أصل لها ، و بُنيت على باطل ، لا بُدَّ بعد مرور الأزمان و تداول الناس و أهل البحث من انكشاف ضعفها ، و خمول ذكرها ، كما يُشاهد في كثير من الأخبار الكاذبة ، و الأراجيف الطارئة .
و أعَلامُ نبينا صلى الله عليه وسلم هذه الواردة من طريق الآحاد لا تزداد مع مرور الزمان إلا ظهوراً ، و مع تداول الفِرَق ، و كثرة طعن العدو ، و حرصه على توهينها ، و تضعيف أصلها ، و اجتهاد الملحد على إطفاء نورها إلا قوة و قبولاً ، و للطاعنين عليها إلا حسرة و غليلاً .
و كذلك إخباره عن الغيوب ، و إنباؤه بما يكون و كان , معلومٌ من آياته على الجملة بالضرورة .
و هذا حقٌ لا غطاء عليه ، و قد قال به من أئمتنا القاضي ، و الأستاذ أبو بكر و غيرهما ، رحمهم الله ، و ما عندي أوجب قول القائل : إن هذه القصص المشهورة من باب خبر الواحد إلا قِلَّة مطالعته للأخبار و روايتها ، و شغله بغير ذلك من المعارف ، و إلا فمن اعتنى بطرق النقل ، و طالع الأحاديث و السير لم يَرْتَب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه .
و لا يَبْعُدُ أن يحصُل العلم بالتواتر عند واحد و لا يحصُل عند آخر ، فإن أكثر الناس يعلمون ــ بالخبر ــ كون بغداد موجودة ً ، و أنها مدينة عظيمة ، و دار الإمامة و الخلافة ، و آحادٌ من الناس لا يعلمون اسمها ، فضلاً عن وصفها
و هكذا يعلم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة و تواتر النقل عنه , أن مذهبه إيجاب قراءة أم القرآن في الصلاة للمنفرد و الإمام ، وإجزاءُ النية في أول ليلة من رمضان عما سواه ، و أن الشافعي يرى ت جديد النية كل ليلة ، و الاقتصار في المسح على بعض الرأس ، و أن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد و غيره ، و إيجاب النية في الوضوء ، واشتراط الولي في النكاح ، و أن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل ، وغيرهم ممن لم يشتغل بمذاهبهم و لا روى أقوالهم لا يعرف هذا من مذاهبهم فضلاً عمن سواه .
و عند ذكرنا آحاد هذه المعجزات نزيد الكلام فيها بياناً إن شاء الله تعالى .
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل

في إعجاز القرآن ... (الوجه الأول)


قال القاضي أبو الفضل رحمه الله
اعلم وفقنا الله و إياك أن كتاب الله العزيز منطوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة ، و تحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه :
أولها : حُسن تأليفه ، و التئام كَلِمِهِ ، و فصاحته ، و وجوه إيجازه ، و بلاغته الخارقة عادة العرب ، و ذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، و فرسان الكلام ، قد خُصُّوا من البلاغة و الحكم بما لم يُخَصَّ به غيرهم من الأمم ، و أُوتوا من ذَرَابةِ(1) اللسان ما لم يُؤت إنسان ، و من فضل الخطاب ما يقيِّد الألباب جعل الله لهم ذلك طبعاً و خِلقة ، و فيهم غريزة و قوة ، يأتون منه على البديهة بالعَجَب ، و يدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات ، و شديد الخطب ، و يرتجزون به بين الطعن و الضرب ، و يمدحون و يقدحون ، و يتوسلون و يتوصلون ، و يرفعون و يضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، و يطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللَّآل ، فيخدعون الألباب ، و يذللون الصعاب ، و يذهبون الإحن(2) و يهيجون الدِّمَن ، و يُجرِّئون الجبان ، و يبسطون يد الجَعْد البنان(3) و يُصيِّرون الناقص كاملاً و يتركون النبيه خاملاً .
منهم البدوي ذو اللفظ الجَزْلِ(4) و القول الفصل ، والكلام الفخم ، و الطبع الجوهري ، و المنزع القوي .
و منهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، و الكلمات الجامعة ، و الطبع السهل ، و التصرف في القول القليل الكفلة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية .
و كلا البابين لهما في البلاغة الحُجة البالغة ، و القوة الدامغة ، و القِدْح الفالج (5) و الـمَهْيَع الناهج (6) ، لا يَشُكُّون أن الكلام طوع مرادهم ، و البلاغة ملك قيادهم ، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها ، و دخلوا من كل باب من أبوابها ، و علوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير و المهين ، و تفننوا في الغث و السمين ، و تقاولوا في القل و الكثر ، و تساجلوا(7) في النظم و النثر ، فما راعهم إلا رسول كريم ، بكتاب عزيز (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أُحمكت آياته ، و فُصلت كلماته ، و بهرت بلاغته العقول ، و ظهرت فصاحته على كل مقول ، و تظافر إيجازه و إعجازه ، و تظاهرت حقيقته و مجازه ، و تبارت في الحسن مطالعه و مقاطعه ، و حوت كل البيان جوامعه و بدائعه ، و اعتدل مع إيجازه حُسن نظمه ، و انطبق على كثرة فوائده مختار لفظه ، وهم أفسح ما كانوا في الباب مجالاً ، و أشهر في الخطابة رجالاً ، و أكثر في السجع و الشعر سجالاً ، و أوسع في الغريب و اللغة مقالاً ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، و منازعهم التي عنها يتفاضلون ، صارخاً بهم في كل حين ، و مقرِّعاً لهم بضعاً و عشرين عاماً على رؤوس الملأ أجمعين : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) .
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً)

(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) و ذلك أن الـمُفترى أسهل و وضع الباطل و الـمُختلق على الاختيار أقرب ، و اللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ، و لهذا قيل : فلان يكتب كما يقال له ، و فلا يكتب كما يريد .
و للأول على الثاني فضل ، و بينهما شأو بعيد .
فلم يزل يقرِّعهم صلى الله عليه و سلم أشد التقريع ، و يوبخهم غاية التوبيخ ، و يسفه أحلامهم ، و يحط أعلامهم ، و يشتت نظامهم ، و يذم آلهتهم و إيَّاهم ، و يستبيح أرضهم و ديارهم و أموالهم ، و هم في كل هذا ناكصون عن معارضتيه ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب و التكذيب ، و الإغراء بالإفتراء ، و قولهم : إن هذا إلا سحر يؤثر ، و سحرٌ مستمر ، و إفك افتراه ، و أساطير الأولين ، و المباهتة و الرضا بالدنِّية ، كقولهم : قلوبنا غلف , و في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . و لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
و الادعاء مع العجز بقولهم : (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
و قد قال لهم الله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فما فعلوا و لا قدروا . و من تعاطى ذلك من سُخفائهم كمسيلمة كشف عُواره(8) لجميعهم ، و سلبهم الله ما ألِفوه ، من فصيح كلامهم ، و إلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، و لا جنس بلاغتهم ، بل ولَّوا عنه مدبرين ، و أتوا مذعنين من بين مهتد و بين مفتون .
و لهذا لما سمع ال وليد بن مغيرة من النبي صلى الله عليه و سلم :
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
قال : و الله ، إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوةً ، و إن أسفله لمغدق ، و إن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .
و ذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ :
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فسجد ، و قال : سجدت لفصاحته .
و سمع آخر رجلاً يقرأ :
(فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)
فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .
و حُكي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، و استخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب و غيرها ، و أنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا هي قد جُمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا و الآخرة ، و هي قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)
و حكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أو يعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين ، و خبرين ، و بشارتين .
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته ، غير مضاف إلى غيره على التحقيق و الصحيح من القولين .
و كون القرآن من قِبَل النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه أتى به معلوم ضرورة ، و كونه صلى الله عليه وسلم متحدياً به معلوم ضرورة ، و عجز العرب عن الإتيان بع معلوم ضرورة ، و كونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة و وجوه البلاغة ، و سبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المفكرين من أهلها عن معارضته و اعتراف المفسرين بإعجاز بلاغته .
و أنت إذا تأملت قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
و قوله : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) .
و قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .
و قوله : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
و قوله : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
و أشباهها من الآي ، بل أكثر القرآن حققت ما بينته من إيجار ألفاظها ، و كثرة معانيه ، و ديباجة عبارتها ، و حُسن تأليف حروفها ، و تلاؤم كلمها ، و أن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة ، و فصولاً جمة ، و علوماً زواخر ، مُلئت الدواوين من بعض ما استُفيد منها ، و كثرت المقالات في المستنبطات عنها .
ثم هو في سرده القصص الطوال ، و أخبار القرون السوالف ، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام ، و يذهب ماء البيان آية لمتأمله ، من ربط الكلام بعضه ببعض ، و التئام سرده ، و تناصف وجوهه ، كقصة يوسف على طولها .
ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تنسي في البيان صاحبتها ، و تناصف في الحسن وجه مقابلتها ، و لا نفور للنفوس من ترديدها ، و لا مُعاداة لمعادها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذَرَابةِ : حذقة
(2) الإحن :جمع إحنة وهي الحقد
(3) الجَعْد البنان : البخيل
(4) الجزل :خلاف الركيك
(5) القِدْح الفالج : السهم قبل أن يراش ويجعل فيه نصل , والفالج : الفائز
(6) الـمَهْيَع الناهج : المهيع : الطريق , الناهج : السالك
(7) تساجلوا : أي تفاخروا
(8) عُواره : في الصحاح العوار : العيب
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في إعجاز القرآن ..( الوجه الثاني )
الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب ، و الأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب و مناهج نظمها و نثرها الذي جاء عليه ، و وقفت مقاطع آيه ، و انتهت فواصل كلماته إليه ، و لم يُوجد قبله و لا بعده نظير له ، و لا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، و تدلَّهت(1) دونه أحلامهم ، و لم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم ، أو سجع أو رجز ، أو شعر .
و لما سمع كلامه صلى الله عليه و سلم الوليد بن المغيرة ، و قرأ عليه القرآن رقَّ ، فجاءه أبو جهل منكراً عليه ـ قال : و الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني ، و الله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا .
و في خبره الآخر حين جَمَعَ قريشاً عند حضور الموسم ، و قال : إن وفود العرب تَرِد فأجمعوا فيه رأياً لا يُكذِّب بعضكم بعضاً ، فقالوا : نقول كاهن . قال : و الله ما هو بكاهن ما هو بزمزمته (2) و لا سجعه .
قالوا : مجنون : قال : ما هو بمجنون ، و لا بخنقِه(3) و لا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر . قد عرفنا الشعر كله ، رجزه ، و هزجه ، و قريضه ، و مبسوطه ، و مقبوضه ، ما هو بشاعر .
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، و لا نفثه و لا عَقدِه(4) .
قالوا : فما نقول : قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً ، إلا و أنا أعرف أنه باطل ، و إن أقرب القول أنه ساحر ، فإنه سحر يفرق بين المرء و ابنه ، و المرء و أخيه ، و المرء وزوجه ، و المرء و عشيرته .
فتفرقوا و جلسوا على السبل يحذرون الناس ، فأنزل الله تعالى في الوليد : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ).
و قال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن : يا قوم ، قد علمتم أني لم أترك شيئاً إلا و قد علمته و قرأته و قلته ، و الله لقد سمعت قولاً و الله ما سمعت مثله قط ، ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، و لا بالكهانة .
و قال النضر بن الحارث نحوه .
و في حديث إسلام أبو ذر و وصف أخاه أنيساً ، فقال : و الله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس ، لقد ناقض(5) اثني عشر شاعراً في الجاهلية ، أنا أحدهم ، و إنه انطلق إلى مكة ، و جاء إلى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه و سلم . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر : كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، و لقد وضعته على أقرَاء الشعر(6) فلم يلتئم ، و ما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، و إنه لصادق ، و إنهم لكاذبون .
و الأخبار في هذا صحيحة كثيرة .
و الإعجاز بكل واحد من النوعين : الإيجاز و البلاغة بذاتها ، أو الأسلوب الغريب بذاته ، كل واحد منهما نوع إعجازه على التحقيق ، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذا كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها و كلامها ، و إلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين .
و ذهب بعض المقتدي بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة و الأسلوب ، و أتى على ذلك بقول تمُجُّه الأسماع ، و تنفر منه القلوب .
و الصحيح ما قدمناه ، و العلم بهذا كله ضرورة قطعاً .
و مَن تفنن في علوم البلاغة ، و أرهف(7) خاطرهُ و لسانهُ أدبُ هذه الصناعة لم يَخْفَ عليه ما قلناه .
و قد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جُمع في قوة جزالته ، و نصاعة ألفاظه ، و حسن نظمه ، و إيجازه ، و بديع تأليفه و أسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر ، و أنه من باب الخوارق الممتنعة عن أقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ، و قلب العصا ، و تسبيح الحصى .
و ذهب الشيخ أبو الحسن إلى أن مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، و يقدرهم الله عليه ، و لكنه لم يكن هذا و لا يكون ، فمنعهم الله هذا ، و عجَّزهم عنه .
و قال به جماعة من أصحابه .
و على الطريقين فعجز العرب عنه ثابت ، و إقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر ، و تحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع ، و هو أبلغ في التعجيز ، و أحرى بالتقريع ، و الاحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم ، و هو أبهر آية ، و أقمع دلالة .
و على كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء(8) و القتل ، و تجرعوا كاسات الصَّغَار و الذل ، و كانوا من شموخ الأنف ، و إباءة الضيم ، بحيث لا يؤثرون ذلك اختياراً ، و لا يرضونه إلا اضطراراً ، و إلا فالمعارضة لو كانت من قُدَرهم(9) والشغل بها أهون عليهم و أسرع بالنجح و قطع العذر و إفحام الخصم لديهم ، و هم ممن لهم قدرة على الكلام ، و قدوة في المعرفة به لجميع الأنام ، و ما منهم إلا من جهد جهده ، و استنفد ما عنده في إخفاء ظهوره ، و إطفاء نوره ، فما جلوا في ذلك خبيئةً من بنات شفاههم ، و لا أتوا بنطفة(10) من معين مياههم ، مع طول الأمد ، و كثرة العدد ، و تظاهر الوالد و ما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا (11) ، و مُنعوا فانقطعوا.
فهذان نوعان من إعجازه .



-------------------------------------------------------------
(1) و تدلَّهت : هو ذهاب العقل من الهوى
(2) ما هو بزمزمته : الزمزمة صوت خفي لا يكاد يُفهم
(3) و لا بخنقِه : في الصحاح الخنق _ بكسر النون _ مصدر خنقه يخنقه
(4) و لا نفثه و لا عَقدِه : كان الساحر يعقد خيطا ثم ينفث عليه
(5) ناقض : وزن فعل من نقض البناء أي هدمه
(6) أقراء الشعر : طُرقه وأنواعه
(7) و أرهف : أي رفق
(8) الجلاء : الخروج من البلد
(9) قُدَرهم : جمع قُدرة
(10) بنطفة : أي بشيء يسير
(11) نبسوا : ما نبس بكلمة أي ما تكلم بكلمة
صورة العضو الرمزية
ام اسامه
مشاركات: 1670
اشترك في: الأحد 2014.3.2 9:05 am
مكان: الخرطوم

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة ام اسامه »

جزاك الله خير
علي الموضوع القيم
اخي طلال
صورة العضو الرمزية
احلام بت النيل
مشاركات: 3193
اشترك في: الاثنين 2015.6.8 11:50 am
مكان: نهر النيل

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة احلام بت النيل »

جزاك الله خير الجزاء
وفي ميزان حسناتك ان شاء الله
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

احلام بت النيل كتب:
جزاك الله خير الجزاء


وفي ميزان حسناتك ان شاء الله
اللهم آمين وربنا يقبل منا ومنكم صالح الأعمال
ورمضان كريم

مشكورة يا بت النيل
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل

في إعجاز القرآن ...( الوجه الثالث)


الوجه الثالث من الإعجاز ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيَّبات ، و ما لم يكن و لم يقع ، فوُجد ، كما ورد ، و على الوجه الذي أخبر به ، كقوله تعالى :
(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).
و قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ).
و قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
و قوله : (وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
و قوله : (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).
فكان جميع هذا ، كما قال ، فغَلبت الروم فارس في بضع سنين ، و دخل الناس في الإسلام أفواجاً ، فما مات صلى الله عليه و سلم و في بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام .
و استخلف الله المؤمنين في الأرض ، و مكَّن فيها دينهم ، و ملَّكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (زُويت(1) لي الأرض ، فأُريتُ مشارقها و مغاربها ، و سيبلغ مُلك أمتي ما زُوي لي منها) .
و قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فكان كذلك ، لا يكاد يُعدُّ من سعى في تغييره و تبديل مُحكَمِه من الملحِدة و المعطلِّة ، لا سيما القرامطة(2) فأجمعوا كيدهم و حولهم و قوتهم ، اليوم نيفاً (3) على خمسمائة عام ، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره ، و لا تغيير كلمة من كلامه ، و لا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه ، و الحمد لله .
و منه قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ)
و قوله : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)
و قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
و قوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) .
فكان كل ذلك .
و ما فيه من كشف أسرار المنافقين و اليهود ، و مقالهم و كذبهم في حلفِهِم ، و تقريعهم بذلك ، كقوله : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .
و قوله : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
و قوله (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
و قوله : (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ).
و قد قال مبدياً ، ما قدَّره الله واعتقده المؤمنين يوم بدر : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
و منه قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)
و لما نزلت بشَّر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك أصحابه بأن الله كفاه إياهم ، و كان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه و يؤذونه فهلكوا .
و قوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فكان كذلك على كثرة من رام ضرَّه ، و قصد قتله ، و الأخبار بذلك معروفة صحيحة .

-----------------------------------------------------------

(1) زُويت : جُمعت
(2) القرامطة : هم أتباع حمدان القرمطي
(3) نيفاً : زيادة
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في إعجاز القرآن ... (الوجه الرابع)
الوجه الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، و الأمم البائدة ، و الشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ(1) من أخبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي صلى الله عليه و سلم على وجهه ، و يأتي به على نصِّه ، فيعترف العالِـم بذلك بصحته و صدقه ، و أن مثله لم ينله بتعليم .
و قد علموا أنه صلى الله عليه و سلم أمي لا يقرأ و لا يكتب ، و لا اشتغل بمدارسة و لا مُثافنة(2) و لم يغب عنهم ، و لا جهل حاله أحد منهم .
و قد كان أهل الكتاب كثيراً ما يسألونه صلى الله عليه و سلم عن هذا ، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً ، كقصص الأنبياء مع قومهم ، و خبر موسى و الخضر ، و يوسف و إخوته ، و أصحاب الكهف ، و ذي القرنين، و لقمان و ابنه ، و أشباه ذلك من الأنباء و القصص ، و بدء الخلق و ما في التوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و صحف إبراهيم و موسى ، مما صدَّقه فيه العلماء بها ، و لم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها ، بل أذعنوا لذلك ، فمن موَّفق آمَن بما سبق له من خير ، و من شقي معاند حاسد ، و مع هذا لم يُحك عن واحد من النصارى و اليهود على شدة عداوتهم له ، و حرصهم على تكذيبه ، و طول احتجاجه عليهم بما في كتبهم ، و تقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ، و كثرة سؤالهم له صلى الله عليه و سلم ، و تعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم ، و أسرار علومهم ، و مستودعات سِيَرهم ، و إعلامه لهم بمكتوم شرائعهم و مضمنات كتبهم ، مثل سؤالهم عن الروح ، و ذي القرنين ، و أصحاب الكهف ، و عيسى ، و حكم الرجم و ما حَرَّم إسرائيل على نفسه ، و ما حُرّم عليهم من الأنعام ، و من طيبات أحلت لهم فحُرَّمت عليهم ببغيهم .
و قوله : (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
و غير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن ، فأجابهم و عرَّفهم بما أوحى إليه من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذَّبه ، بل أكثرهم صرَّح بصحة نبوته ، و صِدق مقالته ، و اعترف بعناده و حسدهم إياه ، كأهل نجران ، و ابن صوريا ، و ابني أخطب و غيرهم .
و من باهت في ذلك بعض المباهتة ، و ادَّعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً دُعيَّ إلى إقامة حُجته ، و كشف دعوته ، فقيل له : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
فقرَّع و وبَّخ ، و دعا إلى إحضار ممكن غير ممتنع ، فمن مُعترف بما جحده ، و مُتواقح يُلقي على فضيحته من كتابه يده .
و لم يُؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه ، و لا أبدى صحيحاً و لا سقيماً من صُحُفه ، قال الله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفذ :أي الفرد
(2) مُثافنة : في الصحاح .. ثافنت فلان أي جالسته
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



هذه الوجوه الأربعة من الإعجاز لا نزاع فيها و لا مرية
هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بيِّنة لا نزاع فيها و لا مرية . و من الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في قضايا ، و إعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا و لا قدروا على ذلك ، كقوله لليهود : (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)
قال أبو إسحاق الزجَّاج : في هذه الآية أعظم حُجة و أظهر دلالة على صحة الرسالة ، لأنه قال : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) و أعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً ، فلم يتمنه واحداً منهم .
و عن النبي صلى الله عليه و سلم :(و الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلا غُصَّ بريقه) يعني يموت مكانه .
فصرفهم الله عن تمنيه و جزَّعهم ، ليُظهر صدق رسوله ، و صحة ما أوحي إليه ، إذا لم يتمنه أحد منهم ، و كانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ، و لكن الله يفعل ما يريد ، فظهرت بذلك معجزته ، و بانت حُجته .
قال أبو محمد الأصيلي : مِن أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ، و لا واحد _ من يوم أمر الله بذلك نبيه _ يُقدِم عليه ، و لا يُجيب إليه .
و هذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم .

و كذلك آية المباهلة من هذا المعنى ، حيث وفد عليه أساقفة * نجران و أبوا الإسلام ، فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة بقوله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).
فامتنعوا منها ، و رضوا بأداء الجزية ، و ذلك أن العاقب عظيمهم قال لهم : قد علمتم أنه نبي ، و أنه ما لاعن قوماً نبي قط فبقي كبيرهم و لا صغيرهم .
و مثله قوله :( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) .
فأخبرهم أنهم لا يفعلون ، كما كان .
و هذه الآية أدخَلُ في باب الإخبار عن الغيب ، و لكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أساقفة : الأساقفة جمع أسقف وهو رئيس دين النصارى وقاضيهم
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

ام اسامه كتب:جزاك الله خير
علي الموضوع القيم
اخي طلال
معليش يا أم أسامة ما شفت مشاركتك إلا اليوم
رغم أني قاعد أدخل هنا كتير الأيام دي
فـ العتب على النظر .. والظاهر مفعول الصيام بدأ يظهر
رمضان كريم علينا وعليك
وحمد لله على السلامة ويا رب آخر الغيبات
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في وجوه أخرى للإعجاز (1)

و منها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه و أسماعهم عند سماعه ، و الهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله ، و إنافة خطره ، و هي على المكذبين به أعظم ، حتى كانوا يستثقلون سماعه ، و يزيدهم نفوراً ، كما قال تعالى ، و يودون انقطاعه لكراهتهم له .

و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : إن القرآن صعبٌ مستصعب على من كرهه ، و هو الحَكَمُ ، و أما المؤمن فلا تزال روعته به ، و هيبته إياه ، مع تلاوته تُولِيه انجذاباً ، و تكسبه هشاشة ، لميل قلبه إليه ، و تصديقه به ، قال تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)
و قال : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
و يدل على أن هذا شيء خُصَّ به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ، و لا يعلم تفاسيره ، كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي ، فقيل له : مم بكيت ؟ قال : للشجا و النظم .
و هذه الروعة قد اعترت جماعةً قبل الإسلام و بعده ، فمنهم من أسلم لها لأول و هلة و آمن به ، و منهم من كفر .
فحُكي في الصحيح ، عن جبير بن مطعم ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصيْطِرُونَ) كاد قلبي أن يطير للإسلام .
و في رواية : و ذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي .
و عن عتبية بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه و سلم فيما جاء به من خلاف قومه ، فتلا عليهم : (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
فامسك عتبة بيده على فِـي النبي صلى الله عليه و سلم ، و ناشده الرحم أن يكُفَّ .
و في رواية : فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ و عتبة مُصغٍ مُلقٍ يديه خلف ظهره ، معتمد عليهما ، حتى انتهى إلى السجدة ، فسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، و قام عتبة لا يدري بما يراجعه ، و رجع إلى أهله ، و لم يخرج إلى قومه حتى أتوه ، فاعتذر لهم ، و قال : و الله لقد كلمني بكلام و الله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له .
و قد حُكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة و هيبة كف بها عن ذلك .
فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك و رامه ، و شرع فيه ، فمر بصبي يقرأ : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) فرجع فمحا ما عمل ، و قال : أشهد أن هذا لا يُعارض ، و ما هو من كلام البشر ، و كان من أفصح أهل وقته .
و كان يحيى بن حَكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه ، فحكي أنه رام شيئاً من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها ، و ينسج بزعمه على منوالها ـ قال : فاعترتني خشية ورقة حملتني على التوبة و الإنابة .
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في وجوه أخرى للإعجاز(2)
و من وجوه إعجازه المعدودة كونه آيةً باقيةً لا تُعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
و قال : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .
و سائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها ، فلم يبق إلا خبرها ، و القرآن العزيز ، الباهرة آياته ، الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدة خمسمائة عام و خمس و ثلاثين سنةً * لأول نزوله إلى و قتنا هذا حجته قاهرة ، و معارضته ممتنعة ، و الأعصَار كلها طافحة بأهل البيان ، و حملة عِلم اللسان ، و أئمة البلاغة ، و فرسان الكلام ، و جهابذة البراعة ، و الملحد فيهم كثير ، و المعادي للشرع عتيد ، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته ، و لا ألف كلمتين في مناقضته ، و لا قدر فيه على مَطعَن صحيح ، و لا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح ، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه ، و النكوص على عقبيه .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تلك الفترة التي عاش فيها المؤلف عليه رحمة الله
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في وجوه أخرى للإعجاز ... الفصل الأخير
و قد عدَّ جماعةً من الأئمة و مُقلِّدي الأمة في إعجازه وجوهاً كثيرةً ، منها أن قارئه لا يمله ، و سامعه لا يمجه ، بل الإكبابُ على تلاوته يزيد حلاوةً ، و ترديده يوجب له محبةً ، لا يزال غضاً طرياً ، و غيره من الكلام _ و لو بلغ في الحسن و البلاغة مبلغه_ يُمل مع الترديد ، و يعادى إذا أعيد ، و كتابنا يُستلذ به في الخلوات ، و يؤنس بتلاوته في الأزمات ، و سواه من الكتب لا يُوجد فيها ذلك ، حتى أحدث أصحابها لحوناً و طرقاً يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها .
و لهذا و صف رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد ، و لا تنقضي عبره ، و لا تفنى عجائبه ، هو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، و لا تزيغ به الأهواء ، و لا تلتبس به الألسنة ، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ).
و منها جمعه لعلوم و معارف لم تعهد العرب عامةً و لا محمد صلى الله عليه و سلم قبل نبوته خاصة ، بمعرفتها ، و لا القيام بها ، و لا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، و لا يشتمل عليها كتاب من كتبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، و التنبيه على طرق الحُجج العقليات ، و الرد على فِرق الأمم ، ببراهين قوية ، و أدلة بينة سهلة الألفاظ ، موجزة المقاصد ، رام المتحذلقون بعدُ أن ينصبوا أدلةً مثلها فلم يقدروا عليها كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).
و : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
و : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
إلى ما حواه من علوم السير ، و أنباء الأمم ، و المواعظ ، و الحكم ، و أخبار الدار الآخرة ، و محاسن الآداب و الشيم .
قال الله جل اسمه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
و : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).
و : (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).
و قال صلى الله عليه و سلم : (إن الله أنزل هذا القرآن آمراً و زاجراً ، و سنةً خاليةً ، و مثلاً مضروباً ، فيه نبؤكُم ، و خبر ما كان قبلكم ، و نبأ ما بعدكم ، و حكم ما بينكم ، لا يُخلِقُه طول الرد ، و لا تنقضي عجائبه ، هو الحق ليس بالهزل ، من قال به صدق ، و من حكم به عدل ، و من خاصم به فلج(1) ، و من قسم به أقسط(2) و من عمل به أُجر ، و من تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم ، و من طلب الهدى من غيره أضله الله ، و من حكم بغيره قصمه الله ، هو الذكر الحكيم ، و النور المبين ، و الصراط المستقيم ، و حبل الله المتين ، و الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، و نجاة لمن اتبعه ، لا يعوج فيقوَّم ، و لا يزيغ فيُستعتب ، و لا تنقضي عجائبه ، و لا يُخلِق على كثرة الرد) .
و نحوه عن ابن مسعود ، و قال فيه : (و لا يختلف و لا يتشان(3) ، فيه نبأ الأولين و الآخرين).
و في الحديث : قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم :(إني منزل عليك توراة حديثة ، تفتح بها أعيناً عمياً ، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً ، فيها ينابيع العلم ، و فهم الحكمة ، و ربيع القلوب) .
و عن كعب : عليكم بالقرآن ، فإنه فهم العقول ،و نور الحكمة .
و قال الله تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
و قال : (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).
فجمع فيه مع و جازة ألفاظه ، و جوامع كلمة أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضِّعف منه مرات .
و منها جمعه فيه بين الدليل و مدلوله ، و ذلك أنه احتجَّ بنظم القرآن ، و حسن وصفه و إيجازه و بلاغته ، و أثناء هذه البلاغة أمره و نهيه ، و وعده و وعيده ، فالتالي له يفهم موضع الحُجة و التكليف معاً من كلام واحد و سورة منفردة .
و منها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يُعهد ، و لم يكن في حيز المنشور ، لأن المنظوم أسهل على النفوس ، و أوعى للقلوب ، و أسمع في الآذان ، و أحلى على الأفهام ، فالناس إليه أميل ، و الأهواء إليه أسرع .
و منها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه ، و تقريبه على متحفظيه ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ).
و سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجماء على مرور السنين عليهم . و القرآن مُيسَّر حفظه للغلمان في أقرب مدة .
و منها مشاكلة بعض أجزائه بعضاً ، و حسن ائتلاف أنواعها ، و التئام أقسامها ، و حسن التخلص من قصة إلى أخرى ، و الخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، و انقسام السورة الواحدة إلى أمر و نهي ، و خبر واستخبار، و وعد و وعيد ، و إثبات نبوة ، و توحيد و تفريد ، و ترغيب و ترهيب ، إلى غير ذلك من فوائده ، دون خلل يتخلل فصوله .
و الكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته ، و لانت جزالته ، و قل رونقه ، و تقلقت ألفاظه .
فتأمل أول (ص) ، و ما جُمع فيها من أخبار الكفار و شقاقهم و تقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، و ما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه و سلم ، و تعجبهم مما أتى به ، و الخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر و ما ظهر من الحسد في كلامهم ، و تعجيزهم و توهينهم ،و وعيدهم بخزي الدنيا و الآخرة ،و تكذيب الأمم قبلهم ،و إهلاك الله لهم ، و وعيد هؤلاء مثل مصابهم ، و تصبير النبي صلى الله عليه وسلم على أذاهم و تسليته بكل ما تقدم ذكره ، ثم أخذ في ذكر داود و قصص الأنبياء ، كل هذا في أوجز كلام و أحسن نظام .
و منه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة ، و هذا كله و كثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن ، إلى و جوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها ، إذ أكثرها داخل في باب بلاغته ، فلا يجب أن يعد فناً منفرداً في إعجازه ،إلا في باب تفضيل فنون البلاغة ، و كذلك كثير مما قدمنا ذكره عنهم يع د في خواصه و فضائله ، لا إعجازه .
و حقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا ، فليُعتمد عليها ، و ما بعدها من خواص القرآن و عجائبه التي لا تنقضي. و الله و لي التوفيق .




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فلج : في الصحاح , الفلج : الظفر والفوز
(2) أقسط : أي عدل
(3) يتشان : هو البغض
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في انشقاق القمر و حبس الشمس
قال الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).
أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، و إعراض الكفرة عن آياته ، و أجمع المفسرون و أهل السنة على وقوعه .
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، و فرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم (اشهدوا) .
و في رواية مجاهد :و نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم .
و في بعض طرق الأعمش : و نحن بمِنى .
و رواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ الأسود ، و قال : حتى رأيتُ الجبل بين فرجتي القمر .
و رواه عنه مسروق أنه كان بمكة و زاد : فقال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة(1)
فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض ، كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر : هل رأوا هذا ؟
فأتوا ، فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك .
و حكى السمرقندي عن الضحاك نحوه ، و قال : فقال أبو جهل : هذا سحر ، فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا : أرأوا ذلك أم لا ؟
فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقاً ، فقالوا ـ يعني الكفار : هذا سحر مُستمر .
و رواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ علقمة ، فهؤلاء أربعة عن عبد الله .
و قد رواه غير ابن مسعود ، كما رواه ابن مسعود ، منهم أنس ، و ابن عباس و ابن عمر ، و حذيفة ، و علي ، و جبير بن مطعم ، فقال علي من رواية أبي حذيفة الأرحبي : انشق القمر و نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم .
و عن أنس : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حِراء(2) بينهم .
رواه عن أنس قتادة .
و رواه عن جبير بن مطعم ابنه محمد و ابن ابنه جبير بن محمد .
و رواه عن ابن عباس عبيد الله بن عبد الله بن عتبة .
و رواه عن ا بن عمر مجاهد ، و رواه عن حذيفة أبو عبد الرحمن السلمي و مسلم بن أبي عمران الأزدي .
و أكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة ، و الآية مُصرِّحة ، و لا يُلتفت إلى اعتراض مخذول ، بأنه لو كان هذا لم يُخف على أهل الأرض ، إذ هو شيء ظاهر لجميعهم ، إذ لم يُنقل لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ، و لو نُقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم ـ لكثرتهم ـ على الكذب ، لما كانت علينا به حجة ، إذ ليس القمر في حدِّ واحد لجميع أهل الأرض ، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين ، و قد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض ، أو يحول بين قوم و بينه سحاب أو جبال ، و لهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض ، و في بعضها جزئية ، و في بعضها كلية ، و في بعضها لا يعرفها إلا المدَّعون لعلمها ، (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .
و آية القمر كانت ليلاً ، و العادة من الناس بالليل الهدو و السكون و إيجاف(3) الأبواب ، و قطع التصرف ، و لا يكاد يعرف من أمور السماء شيئاً ، إلا من رصد ذلك ، واهتبل(4) به
و لذلك ما يكون الكسوف القمري كثيراً في البلاد ، و أكثرهم لا يعلم به حتى يُخبر به ، و كثيراً ما يُحدِّث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار و نجوم طوالع عظام تظهر في الأحيان بالليل في السماء ، و لا علم عند أحد منها .
و خرَّج الطحاوي ـ في مشكل الحديث ، عن أسماء بنت عميس من طريقين ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يُوحى إليه ، و رأسه في حِجر عليِّ فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : (أصليت يا علي ؟) قال :لا .
فقال : (اللهم إنه كان في طاعتك و طاعة رسولك فاردد عليه الشمس) .
قالت أسماء : فرأيتها غربت ، ثم طلعت بعد ما غربت ، و وقفت على الجبال و الأرض ، و ذلك بالصهباء في خيبر .
قال و هذان الحديثان ثابتان و رواتهما ثقات .
و حكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن يكون سبيله العلم التخلُّف عن حفظ حديث أسماء ، لأنه من علامات النبوة .
و روى يونس بن بكير في زيادة المغازي في روايته عن ابن إسحاق : لما أُسريَ برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أخبر قومه بالرُّفقة و العلامة التي في العِير(5) قالوا : متى تجيء ؟ قال : (يوم الأربعاء) فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون و قد ولى النهار و لم تجيء ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فزيد له في النهار ساعة ، و حُبست عليه الشمس .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن أبي كبشة : قيل : ابو كبشة رجل تألّه قديما وفارق دين الجاهلية فشبهت المشركون النبي صلى الله عليه وسلم به
وقيل : كانت له عليه الصلاة والسلام أخت من الرضاعة تسمى كبشة وكان أبوه من الرضاعة يُكنى بها
وقيل : كان في أجداده لأمه من يُكنى بذلك
(2) حِراء : جبل على ثلاثة أميال من مكة
(3) إيجاف : إغلاق
(4) اهتبل : تخيّل أو إهتم
(5) العِير : هي القافلة من الإبل والدواب تحمل الطعام وغيره من التجارات ولا يُسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في نبع الماء من بين أصابعه و تكثيره ببركته
قال المؤلف رحمه الله :
أما الأحاديث في هذا فكثيرة جداً .
روى حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه و سلم جماعة من الصحابة ، منهم أنس ، و جابر ، و ابن مسعود :
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا القاضي عيسى بن سهل ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عمر بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه :
رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و حانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه ، فأُتيَ رسول الله صلى الله عليه و سلم بوضوء ، فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك الإناء يده ، و أمر الناس أن يتوضئوا منه .
قال : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم .
و رواه أيضاً ـ عن أنس ـ قتادة ، و قال : بإناء فيه ماء يغمر أصابعه أو لا يكاد يغمر .
قال : كم كنتم ؟ قال : كنا زهاء ثلاثمائة .
و في رواية عنه : و هم بالزوراء عند السوق .
و رواه أيضاً حميد ، و ثابت و الحسن ، عن أنس .
و في رواية حميد : قلت : كم كانوا ؟ قال : ثمانين .
و نحوه عن ثابت عنه .
و عنه أيضاً : و هم نحو من سبعين رجلاً .
و أما ابن مسعود ففي الصحيح من رواية علقمة : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ليس معنا ماء ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : (اطلبوا من معه فضل ماء) فأُتي بماء فصبَّه في إناء ، ثم وضع كفه فيه ، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و في الصحيح عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر رضي الله عنه : عطش الناس يوم الحديبية و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه ركوة ، فتوضأ منها ، و أقبل الناس نحوه ، و قالوا : ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك ، فوضع النبي صلى الله عليه و سلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون .
و فيه : فقلت : كم كنتم ؟ قالوا : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة .
و روي مثله عن أنس ، عن جابر ، و فيه أنه كان بالحديبية .
و في رواية الوليد بن عبادة الصامت عنه ، في حديث مسلم الطويل في ذكر غزوة بواط قال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا جابر ، (ناد ، الوضوء . . .) و ذكر الحديث بطوله ، و أنه لم يجد إلا قطرة في عزلاء شجب (1) فأُتي به النبي صلى الله عليه و سلم ، فغمزه و تكلم بشيء لا أدري ما هو ، و قال : (ناد بجفنة الرَّكْب) فأتيت بها ، فوضعتها بين يديه ، و ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم بسط يده في الجفنة ، و فرق أصابعه ، و صب جابر عليه ، و قال : بسم الله [ كما أمره صلى الله عليه و سلم ] ، قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، ثم فارت الجفنة و استدارت حتى امتلأت ، و أمر الناس بالإستقاء ، فاستقوا حتى رووا .
فقلت : هل بقي أحد له حاجة ؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده من الجفنة و هي ملأى .

و عن الشعبي : أُتي النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره بإداوة(2) ماء ، و قيل : ما معنا يا رسول الله ماء غيرها ، فسكبها في ركوة ، و وضع إصبعه و سطها ، و غمسها في الماء ، و جعل الناس يجيئون و يتوضئون ثم يقومون .
قال الترمذي و في الباب ، عن عمران بن حصين . و مثل هذا في هذه المواطن الحَفِلَة و الجموع الكثيرة لا تتطرق التهمة إلى المحدث به ، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه ، لما جُبلت عليه النفوس من ذلك ، و لأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل ، فهؤلاء قد رووا هذا ، و أشاعوه ، و نسبوا حضور الجماء الغفير له ، و لم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوا و شاهدوه ، فصار كتصديق جميعهم له .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عزلاء شَجْب : العزلاء هي فم المزادة , والشجب : ما قدِم من القِّرب
(2) بإداوة : أي المطهرة
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



و مما يشبه هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم
و مما يشبه هذا من معجزاته تفجير الماء ببركته ، و انبعاثه بمسه و دعوته فيما روى مالك في الموطأ عن معاذ بن جبل في قصة غزوة تبوك ، و أنهم وردوا العين و هي تبضُّ بشيء من ماء مثل الشراك ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع في شيء ، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه و جهه و يديه ، و أعادة فيها ، فجرت بماء كثير ، فاستقى الناس .
قال ـ في حديث ابن إسحاق : فانخرق من الماء ما له حِسٌّ كحس الصواعق .
ثم قال : (يوشك يا معاذ ، إن طالت بك حياة أن ترى ها هنا قد مليء جناناً) .
و في حديث البراء ، و سلمة بن الأكوع ـ و حديثه أتم ـ في قصة الحديبية ، و هم أربع عشرة مائة ، و بئرها لا تروي خمسين شاة ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فقعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على جَبَاها(1) .
قال البراء ، و أتي بدلو منها ، فبصق فدعا .
و قال سلمة : فإما دعا ، و إما بصق فيها ، فجاشت(2) فأرووا أنفسهم و ركابهم .
و في غير هذه الروايتين ـ في هذه القصة ـ من طريق ابن شهاب في الحديبية:
فأخرج سهماً من كنانته ، فو ضع في قعر قليب ليس فيه ماء ؟ فروي الناس حتى ضربوا بعطن(3) .
و عن أبي قتادة ـ و ذكر أن الناس شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم العطش في بعض أسفاره ، فدعا بالميضأة(4) فجعلها في ضِبنه(5) ثم التقم فمها ، فالله أعلم ـ نفث(6) فيها أم لا ، فشرب الناس حتى رووا و ملئوا كل إناء معهم ، فخُيِّل إليَّ أنها كما أخذها مني ، و كانوا اثنين و سبعين رجلاً .
و روى مثله عمران بن حصين .
و ذكر الطبري حديث أبي قتادة على غير ما ذكره أهل الصحيح ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج بهم مُمِداً لأهل مؤتة عندما بلغه قتل الأمراء و ذكر حديثاً طويلاً فيه معجزات و آيات للنبي صلى الله عليه و سلم ، و فيه إعلامهم أنهم يفقدون الماء في غد .
و ذكر حديث الميضأة ، قال : و القوم زهاء ثلاثمائة .
و في كتاب مسلم أنه قال لأبي قتادة : (احفظ عليَّ ميضأتك ، فإنه سيكون لها نبأ) .. و ذكر نحوه .
و من ذلك حديث عمران بن حصين حين أصاب النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه عطش في بعض أسفارهم ، فوجَّه رجلين من أصحابه(7) و أعلمهما أنهما يجدان امرأةً بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان (8) . . . الحديث ، فوجداها و أتيا بها إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، فجعل في إناء من مزادتيها ، و قال فيه ما شاء الله أن يقول ، ثم أعاد الماء في المزادتين ، ثم فتحت عزاليهما ، و أمر الناس فملئوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئاً إلا ملئوه .
قال عمران : و تخيل إليَّ أنهم لم تزدادا إلا امتلاءً ، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها . و قال : (اذهبي ، فإنا لم نأخذ من مائك شيئاً ، و لكن الله سقانا) . . . الحديث بطوله .
و عن سلمة بن الأكوع : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : (هل من وضوء ؟) فجاء رجل بإداوة فيها نُطفة(9) فأفرغها في قدح ، فتوضأنا كلنا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَة(10) أربع عشرة مائة . . . [ الحديث بطوله ] .
و في حديث عمر ـ في جيش العسرة : و ذكر ما أصابهم من العطش ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه فيشربه ، فرغِب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت ، فملئوا ما معهم من آنية ، و لم تجاوز العسكر .
و عن عمر بن شعيب أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه و سلم ، و هو رديفه بذي المجاز (11) : عطشت و ليس عندي ماء ، فنزل النبي صلى الله عليه و سلم ، و ضرب بقدمه الأرض ، فخرج الماء ، فقال : (اشرب) .
و الحديث في هذا الباب كثير ، و منه الإجابة بدعاء الاستسقاء و ما جانسه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) على جَبَاها : أي ما حول فمها
(2) فجاشت : أي فارت وارتفعت
(3) حتى ضربوا بعطن : أي رووا ورويت إبلهم حتى بركت
(4) بالميضأة : هي آلة الوضوء
(5) ضِبنه : الضبن ما بين الكشح إلى الإبط
(6) نفث : أي نفخ لا ريق معه
(7) فوجَّه رجلين من أصحابه : هما عمير بن حصين وعلي بن طالب
(8) مزادتان : وعاء من الجِلد اكبر من القِّربة
(9) نُطفة : أي شي يسير
(10) نُدَغْفِقُهُ : هو الصب الشديد
(11) بذي المجاز : سوق عند عرفة من أسواق الجاهلية
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



و من معجزاته تكثير الطعام ببركته و دعائه
عن أبي الزبير ، عن جابر ـ أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم يستطعمه ، فأطعمه شطر وسق شعير ، فما زال يأكل منه و امرأته و ضيفه حتى كاله ، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فأخبره ، فقال : (لو لم تكله لأكلتم منه و لقام بكم) .
و من ذلك حديث أبي طلحة المشهور ، و إطعامه صلى الله عليه و سلم ثمانين أو سبعين رجلاً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده ، أي إبطه ، فأمر بها ففتت ، و قال فيهما ما شاء الله أن يقول .
و حديث جابر في إطعامه صلى الله عليه و سلم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير و عَنَاق .
و قال جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه و انحرفوا ، و إن بُرمتنا لتَغطُّ كما هي ، و إن عجيننا ليُخبز .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق في العجين و البرمة ، و بارك .
رواه عن جابر سعيد بن ميناء ، و أيمن .
و عن ثابت مثله ، عن رجل من الأنصار و امر أته ، و لم يسمهما ، قال : و جيء بمثل الكف ، فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يبسطها في الإناء و يقول ما شاء الله ، فأكل منه من في البيت و الحجرة و الدار ، و كان ذلك قد امتلأ ممن قِدم معه صلى الله عليه و سلم لذلك ، و بقي بعد ما شبعوا مثل ما كان في الإناء.
و حديث أبي أيوب أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لأبي بكر من الطعام زهاء ما يكفيهما ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوا ، ثم قال : ادع ستين فكان مثل ذلك ، ثم قال : ادع سبعين فأكلوا حتى تركوا ، و ما خرج منهم أحد حتى أسلم و بايع .
قال أبو أيوب : فأكل من طعامي مائة و ثمانون رجلاً .
و عن سمرة بن جندب : أتى النبي صلى الله عليه و سلم بقصعة فيها لحم ، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل ، يقوم قوم و يقعد آخرون .
و من ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي بكر : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثين و مائة ، و ذكر في الحديث أنه عُجن صاع من طعام ، و صُنعت شاة ، فشوي سواد بطنها(1) قال : و أيم الله ، ما من الثلاثين و مائة إلا وقد حز له حزةً من سواد بطنها ثم جعل منا قصعتين ، فأكلنا منها أجمعون ، و فضل في القصعتين ، فحملته على البعير .
و من ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، عن أبيه ، و مثله لسلمة بن الأكوع ، و أبي هريرة ، و عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فذكروا مخمصة(2) أصابت الناس مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض مغازيه ، فدعا ببقية الأزواد ، فجاء الرجل بالحَثْيَة من الطعام ، و فوق ذلك ، و أعلاهم الذي أتى بالصاع من التمر ، فجمعه على نطع .
قال سلمة : فحزرته كربضة العنز ، ثم دعا الناس بأوعيتهم ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه و بقي منه قدر ما جُعل وأكثر ولو ورده أهل الأرض لكفاهم .
و عن أبي هريرة : أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن ادعو له أهل الصُفَّة ، فتتبعتهم حتى جمعتهم ، فوضِعت بين أيدينا صحفة ، فأكلنا ما شئنا ، و فرغنا و هي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع .
و عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بني عبد المطلب ، و كانوا أربعين ، منهم قوم يأكلون الجذعة ، و يشربون الفرق ، فصنع لهم مُدّاً من طعام فأكلوا حتى شبعوا ، و بقي كما هو ، ثم دعا بعُسّ(3) فشربوا حتى رووا ، و بقي كأنه لم يشرب منه .
و قال أنس : إن النبي صلى الله عليه و سلم حين ابتنى بزينب أمره أن يدعو له قوماً سماهم ، و كل من لقيت ، حتى امتلأ البيت و الحجرة ، و قدم إليهم تَوْرا(4) فيه قَدْرُ مُدّ من تمر جُعل حيساً(7) فوضعه قُدَّامه ، و غمس ثلاث أصابعه ، و جعل القوم يتغدون و يخرجون ، و بقي التور نحواً مما كان ، و كان القوم أحداً أو اثنين و سبعين .
و في رواية أخرى في هذه القصة أو مثلها ، إن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة ، و أنهم أكلوا حتى شبعوا . و قال لي : ارفع ، فلا أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .
و في حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ـ أن فاطمة طبخت قدراً لغدائهما و وجَّهت علياً إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليتغدى معهما ، فأمر فغرفت منها لجميع نسائه صحفةً صحفةً ، ثم له صلى الله عليه و سلم و لعلي ، ثم لها ، ثم رفعت القِدر ، و إنها لتفيض ، قال : فأكلنا منها ما شاء الله .
و أمر عمر بن الخطاب أن يزوِّد أربعمائة راكب من أحمس ، فقال : يا رسول الله ، ما هي إلا أصْوَعٌ . قال : (اذهب) فذهب فزودهم منه ، و كان قدر الفصيل الرَّابض ، من التمر ، و بقي بحاله .
من ، رواية دكين الأحمسي ، و من رواية جرير .
و مثله من رواية النعمان بن مقرن الخبر بعينه ، إلا أنه قال : أربعمائة راكب من مزينة .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب الناس مخمصة . فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : (هل من شيء؟) قلت : نعم ، شيء من التمر في المِزوَد . قال : (فأتني به) فأدخل يده فأخرج قبضة ، فبسطها و دعا بالبركة ، ثم قال : (ادع عشرة) فأكلوا حتى شبعوا ، ثم عشرة كذلك ، حتى أطعم الجيش كلهم و شبعوا . قال : (خذ ما جئت به ، وأدخل يدك ، و اقبض منه و لا تكبَّه) فقبضت على أكثر مما جئت به ، فأكلت منه و أطعمت حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أبي بكر ، و عمر ، إلى أن قتل عثمان ، فانتُهب مني ، فذهب .
و في رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا و كذا من و سق في سبيل الله .
و ذكرت مثل هذه الحكاية في غزوة تبوك ، و أن التمر كان بضع عشرة تمرة .
و منه أيضاً حديث أبي هريرة حين أصابه الجوع ، فاستتبعه النبي صلى الله عليه و سلم ، فوجد لبناً في قدح قد أهدي إليه ، و أمره أن يدعو أهل الصفة .
قال : فقلت : ما هذا اللبن فيهم ؟ كنتُ أحق أن أصيب منه شربة أتقوى بها , فدعوتهم .
و ذكر أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يسقيهم ، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يأخذه الأخر حتى روي جميعهم .
قال : فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم القدح ، و قال : (بقيت أنا و أنت ، اقعد فاشرب) فشربت ، ثم قال : (اشرب) و ما زال يقولها و أشرب حتى قلت : لا و الذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكاً ، فأخذ القدح فحمد الله و سمى و شرب الفضلة .
و في حديث خال بن عبد العزى أنه أجزر(5) النبي صلى الله عليه و سلم شاةً ، و كان عيال خالد كثيراً يذبح الشاة فلا تُبِدُّ(6) عياله عظماً عظماً ، و إن النبي صلى الله عليه و سلم أكل من هذه الشاة و جعل فضلتها في دلو خالد ، و دعا له بالبركة ، فنثر ذلك لعياله ، فأكلوا و أفضلوا ـ ذكر خبره الدولابي .
و في حديث الآجري في إنكاح النبي صلى الله عليه و سلم لعلي فاطمة ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم أ مر بلالاً بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة ، و يذبح جزوراً ليوليمتها ـ قال : فأتيته بذلك فطعن في رأسها ، ثم أدخل الناس رفقةً رفقةً يأكلون منها حتى فرغوا ، و بقيت منها فضلة ، فبرَّك فيها ، و أمر بحملها إلى أزواجه ، و قال : (كلن و أطعمن من غشيكن) .
و في حديث أنس : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فصنعت أمي أم سليم حيساً ، فجعلته في تور ، فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال ضعه ، و ادع لي فلاناً و فلاناً ، و من لقيت .
فدعوتهم ، و لم أدع أحداً لقيته إلا دعوته ، و ذكر أنهم كانوا زهاء ثلاثمائة حتى ملئوا الصفة و الحجرة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : (تحلقوا عشرة عشرة) و وضع النبي صلى الله عليه و سلم يده على الطعام ، فدعا فيه ، و قال ما شاء الله أن يقول ، فأكلوا حتى شبعوا كلهم ، فقال لي ارفع فما أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .
و أكثر أحاديث هذه الفصول الثلاثة في الصحيح . و قد اجتمع على معنى حديث هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ، رواه عنهم أضعافهم من التابعين ، ثم من لا ينعد بعدهم .
و أكثرها في قصص مشهورة ، و مجامع مشهودة ، و لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق ، و لا يسكت الحاضر لها على ما أنكر منها .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سواد بطنها : الكبد
(2) مخمصة : مجاعة
(3) بعُسّ : العس هو القدح الضخم
(4) تَوْر : إناء شبه القدح من الحجارة
(5) أجزر : يقال أجزرت القوم شاه أي أعطيتهم شاه يذبحونها
(6) تُبِدُّ : التبدة هو النصيب

(7) حيساً : هو تمر ينزع نواه ويخلط بالسويق والسمن
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في كلام الشجرة و شهادتها له بالنبوة و إجابتها دعوته

عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره ، فدنا منه أعرابي ، فقال (يا أعرابي ، أين تريد ؟) قال : إلى أهلي . قال : (هل لك إلى خير ؟) قال : و ما هو ؟ قال :( تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً عبده و رسوله) قال : من يشهد لك على ما تقول ؟ قال : (هذه الشجرة السَّمُرة(1) ، و هي بشاطئ الوادي ، و ادعها فإنها تجيبك) .
فأقبلت تخُدُّ (2) الأرض حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثاً ، فشهدت أنه كما قال ، ثم رجعت إلى مكانها .
و عن بريدة : سأل أعرابي النبي صلى الله عليه و سلم آية ، فقال له : (قل لتلك الشجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوك) .
قال : فمالت الشجرة عن يمينها و شمالها و بين يديها و خلفها ، فتقطعت عروقها ، ثم جاءت تخُدُّ الأرض تجر مُغَّبِرةً حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
قال الأعرابي : مرها فلترجع إلى منبتها ، فرجعت ، فدلت عروقها فاستوت .
فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك .
قال : (لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) .
قال : فأذن لي أن أقبل يديك و رجليك ، فأذن له .
و عن يعلى بن مرة ـ و هو ابن سيابة ـ أيضاً ، و ذكر أشياء رآها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فذكر أن طلحة أو سمرةً جاءت فأطافت به ، ثم رجعت إلى منبتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إنها استأذنت أن تسلم علي) .
و في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آذنت النبي صلى الله عليه و سلم بالجن ليلة استمعوا له شجرة .
و عن مجاهد ، عن ابن مسعود في هذا الحديث : إن الجن قالوا : من يشهد لك ؟ قال : (هذه الشجرة , تعالي يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها لها قَعَاقع(3) . . .
و ذكر مثل الحديث الأول أو نحوه .
قال القاضي أبو الفضل : فهذا ابن عمر ، و بريدة ، و جابر ، و ابن مسعود ، و يعلى بن مرة ، و أسامة بن زيد ، و أنس بن مالك ، و علي بن أبي طالب ، و ابن عباس ، و غيرهم ـ و قد اتفقوا على هذه القصة نفسها أو معناها .
و قد رواها عنهم من التابعين أضعافهم ، فصارت في انتشارها من القوة حيث هي .
و ذكر ابن فورك أنه صلى الله عليه و سلم سار في غزوة الطائف ليلاً ، و هو وسِنٌ(4) فاعترضته سدرة ، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما ، و بقيت على ساقين إلى وقتنا هذا ، و هي هناك معروفة معظمة .
و من ذلك حديث أنس رضي الله عنه ـ أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه و سلم ـ ورآه حزيناً : أتحب أن أريك آية ؟ قال : (نعم)فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شجرة من وراء الوادي ، فقال : ادع تلك الشجرة ، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه .
قال : مرها فلترجع ، فعادت إلى مكانها .
و عن علي نحو هذا ، و لم يذكر فيها جبريل ، قال : (اللهم أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها) فدعا شجرة ... و ذكر مثله .
و حزنه صلى الله عليه و سلم لتكذيب قومه و طلبه الآية لهم لا له .
و ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه و سلم أرى ركانة مثل هذه الآية في شجرة دعاها فأتت حتى وقفت بين يديه ، ثم قال : (ارجعي) فرجعت .
و عن الحسن أنه صلى الله عليه و سلم شكا إلى ربه من قومه و أنهم يخوفونه ، و سأله آية يعلم بها ألا مخافة عليه ، فأوحى إليه ائت وادي كذا فيه شجرة ، فادع غصنا منها يأتك . ففعل ، فجاء يخط الأرض خطا حتى انتصب بين يديه ، فحبسه ما شاء الله ، ثم قال له : (ارجع كما جئت ) فرجع ، فقال : (يا رب ، علمت أن لا مخافة علي).
و نحو منه عن عمر ، و قال فيه : (أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها ...) و ذكر نحوه .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه و سلم قال لأعرابي : (أرأيت إن دعوت هذا العِذقَ(5) من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله ؟ )قال : نعم ، فدعاه فجعل يَنقُزُ(6) حتى أتاه . فقال : (ارجع) فعاد إلى مكانه
و خرجه الترمذي ، و قال : هذا حديث صحيح .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السَّمُرة : شجرة من شجر الطلح
(2) تخد : أي تشق
(3) قَعَاقِع : صوت السلاح

(4) وسِنٌ : نعسان

(5) العِذقَ : هي بالنسبة للنخل بمنزلة العنقود من العنب

(6) يَنقُزُ : أي ينبت صعدا , يتصاعد
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في قصة حنين الجذع
و يعضد هذه الأخبار حديث أنين الجذع ، و هو في نفسه مشهور منتشر ، و الخبر به متواتر ، قد خرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر ، منهم أبي بن كعب ، و جابر بن عبد الله ، و أنس بن مالك ، و عبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عباس ، و سهل بن سعد ، و أبو سعيد الخدري و بريدة ، و أم سلمة ، و المطلب بن أبي وداعة ، كلهم يحدث بمعنى هذا الحديث .
قال الترمذي : و حديث أنس صحيح .
قال جابر بن عبد الله : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العِشار(1) .
و في رواية أنس : حتى ارتج المسجد بخواره(2) .
و في رواية سهل : وكثر بكاء الناس لما رأوا به .
و في رواية المطلب وأُبي : حتى تصدَّع وانشق ، حتى جاء النبي صلى الله عليه و سلم ، فوضع يده عليه فسكت .
زاد غيره : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : (إن هذا بكى لما فقد من الذكر) .
و زاد غيره : والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزُّناً على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر به صلى الله عليه و سلم فدفن تحت المنبر .
كذا في حديث المطلب ، و سهل بن سعد ، و إسحاق ، عن أنس .
و في بعض الروايات عن سهل : فدُفنت تحت منبره ، أو جُعلت في السقف.
و في حديث أبي : فكان إذا صلى النبي صلى الله عليه و سلم إليه ، فلما هُدم المسجد أخذه أبي ، فكان عنده إلى أن أكلته الأرض ، وعاد رُفاتاً .
وذكر الإسفرايني أن النبي صلى الله عليه و سلم دعاه إلى نفسه ، فجاء يخرق الأرض ، فألتزمه ، ثم أمره فعاد إلى مكانه .
و في حديث بريده : فقال رسول الله النبي صلى الله عليه و سلم : (إن شئت أردُّك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ، و يكمل خلقك ، و يجدد لك خُوصٌ و ثمرة ، و إن شئت أغرسك في الجنة ، فيأكل أولياء الله من ثمرك) .
ثم أصغى له النبي صلى الله عليه و سلم يسمع ما يقول .
فقال : تغرسني في الجنة ، فيأكل مني أولياء الله ، و أكون في مكان لا أبلى فيه .
فسمعه من يليه .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : (قد فعلت) ثم قال : (اختار دار البقاء على دار الفناء) .

فكان الحسن إذا حدَّث بهذا بكى ، و قال : يا عباد الله ، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شوقاً إليه لمكانه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه .
رواه ـ عن جابر ـ حفص بن عبيد الله و يقال : عبيد الله بن حفص ، و أيمن ، و أبو نضرة ، و ابن المسيب ، و سعيد بن أبي كرب ، و كريب ، و أبو صالح .
و رواه عن أنس بن مالك الحسن ، و ثابت ، و إسحاق بن أبي طلحة .
و رواه عن ابن عمر : نافع ، و أبو حية ، و رواه أبو نضرة ، و أبو الوداك ، عن أبي سعيد ، و عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، و أبو حازم ، و عباس بن سهل ، عن سهل بن سعد ، و كثير بن زيد عن المطلب ، و عبد الله بن بريدة عن أبيه ، و الطفيل بن أبي عن أبيه .
قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : فهذا حديث كما تراه خرَّجه أهل الصحة ، و رواه من الصحابة من ذكرنا ، و غيرهم من التابعين ضعفهم ، إلى من لم نذكره ، و بمن دون هذا العدد يقع العلم لمن اعتنى بهذا الباب . و الله المثبت على الصواب .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العِشار : هي النوق الحوامل وأحدها عُشراء .

(2) بخواره : بضم الجيم وتخفيف الواو هو صوت الشاة والظبي والبقر , وبضم الجيم وفتح الهمزة هو صوت البقر والناس .
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



و مثل هذا في سائر الجمادات
عن علقمة ، عن ابن مسعود ، قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل .
و في غير هذه الرواية عن ابن مسعود : كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الطعام و نحن نسمع تسبيحه .
و قال أنس : أخذ النبي صلى الله عليه و سلم كفا من حصى ، فسبحن في يد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى سمعنا التسبيح ، ثم صبهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن ، ثم في أيدينا فما سبحن .
و روى مثله أبو ذر ، و ذكر أنهم سبحن في كف عمر و عثمان رضي الله عنهما
و قال علي كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فخرج إلى بعض نواحيها ما استقبله شجرة و لا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله .
و عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه و سلم : (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) . قيل : إنه الحجر الأسود .
و عن عائشة رضي الله عنها : (لما استقبلني جبريل عليه السلام بالرسالة جعلتُ لا أمُرُّ بحجر و لا شجر إلا قال : السلام عليك يارسول الله) .
و عن جابر بن عبد الله : لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يمر بحجر و لا شجر إلا سجد له .
و في حديث العباس ، إذا اشتمل عليه النبي صلى الله عليه و سلم و على بنيه ، بملاءة ، و دعا لهم بالستر من النار كستره إياهم بملاءته ، فأمَّنت أسكُفَّةُ الباب(1) و حوائط البيت : آمين آمين.
و عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : مرض النبي صلى الله عليه و سلم فأتاه جبريل بطبق فيه رمان و عنب فأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم ، فسبح .
و عن أنس : صعد النبي صلى الله عليه و سلم ، و أبو بكر ، و عمر ، و عثمان، أُحُداً ، فرجف بهم ، فقال : (اثبت أُحُد ، فإنما عليك نبي و صديق ، و شهيدان) .
و مثله عن أبي هريرة في حراء ، و زاد معه : علي و طلحة ، و الزبير ، و قال : فإنما عليك نبي ، أو صديق ،أو شهيد .
و الخبر في حراء أيضاً عن عثمان ، قال : و معه عشر من أصحابه أنا فيهم .
و زاد عبد الرحمن و سعداً ، قال : و نسيت الإثنين .
و في حديث سعيد بن زيد أيضاً مثله ، و زاد عشرة ، و زاد نفسه .
و قد روي أنه حين طلبته قريش قال له ثبير(2) : اهبط يا رسول الله ، فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله .
فقال حراء : إليَّ يا رسول الله .
و روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على المنبر : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ثم قال : (يمجد الجبار نفسه يقول أنا الجبار ، أنا الجبار ، أنا الكبير المتعال) فرجف المنبر حتى قلنا : ليخرَّنَّ عنه .
و عن ابن عباس : كان حول البيت ستون و ثلاثمائة صنم مثبته الأرجل بالرصاص في الحجارة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده إليها و لا يمسها و يقول : (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه ، و لا لقفاه إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم .
و مثله في حديث ابن مسعود ، و قال : فجعل يطعنها و يقول : جاء الحق و ما يُبدئ الباطل و ما يُعيد .
و من ذلك حديثه مع الراهب(3) في ابتداء أمره ، إذ خرج تاجراً مع عمه ، و كان الراهب لا يخرج لأحد ، فخرج يتخللهم ، حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : هذا سيد العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين .
فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ، فقال : إنه لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجداً له ، و لا تسجد إلا لنبي ... و ذكر القصة ، ثم قال : فأقبل صلى الله عليه و سلم و عليه غمامة تظلله ، فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال الفيء إليه .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أسكُفَّةُ الباب : عتبة الباب .. ويقال أسكوفة أيضا
(2) ثبير : جبل المزدلفة ..وللعرب أربعة جبال أخرى حجازية كل منها يسمى ثبيرا .

(3) الراهب : هو بحيرى .. قال الذهبي : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وآمن به . وفي سيرة الزهري : أنه كان حبرا من يهود تيماء .
أضف رد جديد

العودة إلى ”قطاف إسلامية“