الشذى العباق ودوحة الأشواق

يشمل المواضيع والمشاركات الاسلامية

المشرف: بانه

صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل

في تفضيله بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة و الرؤية وإمامة الأنبياء والعروج به إلى سدرة المنتهى وما رأى من آيات ربه الكبرى


و من خصائصه صلى الله عليه وسلم قصة الإسراء و ما انطوت عليه من درجات الرفعة مما نبَّه عليه الكتاب العزيز ، و شرَحَته صِحاح الأخبار ،
قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
و قال تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18).
فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به صلى الله عليه وسلم ، إذ هو نص القرآن ، و جاءت بتفصيله ، و شرح عجائبه ، و خواص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه أحاديث كثيرة منتشرة ـ رأينا أن نُقدم أكملها ، و نشير إلى زيادة من غيره يجب ذكرها .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :(أُتيتُ بالبُراق ، و هو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلْقة التي يَربُط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة . ثم عُرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : و من معك ؟ قال محمد . قيل : و قد بُعث إليه ؟* قال : قد بُعث إليه ، ففُتح لنا ، فإذا أنا بآدم صلى الله عليه و سلم ، فرحَّب بي ، ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت : قال : جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة : عيسى ابن مريم ، و يحيى بن زكريا صلى الله عليهما ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فذكر مثل الأول ، ففتح لنا ،فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه و سلم وإذا هو قد أُعطي شطر الحُسن ، فرحب بي ، ودعا لي بخير . ثم عرج إلى السماء الرابعة ، و ذكر مثله ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي بخير ، قال الله تعالى : (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ، ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ، ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ،فذكر مثله ،فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور** ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه . ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، و إذا ورقها كآذان الفيلة ، و إذا ثمرها كالقِلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلىَّ ما أوحى ، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم و ليلة ، فنزلتُ إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بَلَوتُ بني إسرائيل و خَبَرتُهم .
قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحطَّ عني خمساً ، فرجعت إلى موسى ، فقلتُ : حطَّ عني خمساً ، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعال و بين موسى حتى قال : يا محمد ، إنهنَّ خمس صلوات كل يوم و ليلة لكل صلاة عشر ٌ، فتلك خمسون صلاة ، و من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة ، فإن عملها كُتبت له عشراً و من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة .
قال : فنزلتُ حتى إنتهيت إلى موسى ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييتُ منه) .
قال القاضي وفقه الله : جَوَّد ثابت رضي الله عنه هذا الحديث عن أنس ما شاء ، و لم يأت أحد عنه بأصوب من هذا .
و قد خلَّط فيه غيره عن أنس تخليطاً كثيراً ، لا سيما من رواية شريك بن أبي نمر ، فقد ذكر في أوله مجيء الملَك له ، و شق بطنه ، و غسله بماء زمزم ، و هذا إنما كان و هو صبي ، و قبل الوحي .
و قد قال شريك في حديثه : و ذلك قبل أن يوحي إليه ، و ذكر قصة الإسراء . و لا خلاف أنها كانت بعد الوحي .
و قد قال غير واحد : إنها كانت قبل الهجرة بسنة ، و قيل : قبل هذا .
و قد روى ثابت عن أنس ، من رواية حمَّاد بن سلمة أيضاً مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو يلعب مع الغلمان عند ظئره(1) و شقه قلبه ـ تلك القصة مفردة من حديث الإسراء كما رواه الناس ، فجوَّد في القصتين ، و في أن الإسراء إلى بيت المقدس و إلى سدرة المنتهى كان قصة واحدة ، و أنه وصل إلى بيت المقدس ، ثم عُرج به من هناك ، فأزاح كل أشكال أوهمه غيره .
وقد روى يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : (فُرج سقف بيتي ، و أنا بمكة ، فنزل جبريل ، ففرج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة و إيماناً ، فأفرغها من صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بنا إلى السماء . . )فذكر القصة .
و روى قتادة الحديث ، بمثله ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، و فيها تقديم
و تأخير ونقص ، و خلاف في ترتيب الأنبياء في السموات .
و حديث ثابت ، عن أنس ـ أتقن و أجود .
و قد وقعت في حديث الإسراء ، زيادات نذكر منها نُكَتاً مفيدة في غَرَضِنا :
منها حديث ابن شهاب ، و فيه : قول : كل نبي له : مرحبا بالنبي الصالح ، و الأخ الصالح ،
إلا آدم و إبراهيم فقالا له : و الابن الصالح .
و فيه ـ من طريق ابن عباس : (ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف(2) الأقلام) .
و عن أنس : (ثم انطُلق بي حتى أتيت سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي) قال : (ثم أُدخلت الجنة) .
و في حديث مالك بن صعصعة : (فلما جاوزته ـ يعني موسى ـ بكى ، فنودي : ما يبكيك ؟ قال : ربِّ ، هذا غلام(3) بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي)

و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فحانت الصلاة ، فأممتهم ، فقال قائل : يا محمد ، هذا مالك خازن النار ، فسلم عليه . فالتفتُّ فبدأني بالسلام) .

و في حديث أبي هريرة : ثم سار حتى أتى إلى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك ؟ قال : هذا محمد رسول الله خاتم النبيين : قالوا : و قد أُرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ و خليفة ، فنعم الأخ و نعم الخليفة ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، و ذكر كلام كل واحد منهم ، و هم إبراهيم ، و موسى , و عيسى ، و داود ، و سليمان .
ثم ذكر كلام النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : و إن محمداً صلى الله عليه و سلم أثنى على ربه عز وجل فقال : (كلكم أثنى على ربه ، و أنا أثنى على ربي . الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، و كافة للناس بشيراً و نذيراً ، و أنزل عليَّ الفرقان فيه تبيان كل شيء . و جعل أمتي خير أمة ، و جعل أمتي أمة وسطاً ، و جعل أمتي هم الأولون ، و هم الآخِرون ، و شرح لي صدري ، و وضع عني وزري ، و رفع لي ذكري ، و جعلني فاتحاً و خاتماً ).
فقال إبراهيم : بهذا فَضَلَكُم محمد .

ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا ، و من سماء إلى سماء ، نحو ما تقدم .
و في حديث ابن مسعود : (وانتُهي بي إلى سدرة المنتهى ، و هي في السماء السادسة(4) إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيُقبض منها ، و إليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها ، قال : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قال : فَرَاش من ذهب .

و في رواية أبي هريرة ، من طريق الربيع بن أنس .( فقيل لي هذه السدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد من أمتك خَلا على سبيلك (5) و هي السدرة المنتهى ، يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، و أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، و أنهار من خمر لذة للشاربين ، و أنهار من عسل مصفى ، و هي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً ، و إن ورقة منها مُظِلَّة الخلق ، فغشيها نور ، و غشيتها الملائكة .
قال : فهو قوله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى).
فقال الله تبارك و تعالى له : سل . فقال : إنك اتخذت إبراهيم خليلاً و أعطيته مُلكاً عظيماً . و كلمت موسى تكليماً ، و أعطيت داود مُلكاً عظيماً ، و ألنت له الحديد و سخَّرت له الجبال و أعطيت سليمان ملكاً عظيماً ، و سخَّرت له الجن و الإنس و الشياطين و الرياح ، و أعطيته ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، و علمت عيسى التوراة و الإنجيل ، و جعلته يُبرئ الأكمه و الأبرص ، و أعذته و أمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له عليهما سبيل .
فقال له ربه تعالى : قد اتخذتك خليلاً وحبيبا . فهو مكتوب في التوراة : محمد حبيب الرحمن ، و أرسلتك إلى الناس كافة ، و جعلت أمتك هم الأولون ، و هم الآخرون ، و جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي و رسولي ، و جعلتك أول النبيين خلقاً ، و آخرهم بعثاً ، و أعطيتك سبعاً من المثاني ، و لم أعطها نبياً قبلك ، و أعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطيها نبياً قبلك ، و جعلتك فاتحاً و خاتماً) .

و في الرواية الأخرى قال : فأُعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، و أعطي خواتيم سورة البقرة ، و غُفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته الـمُقحِمات (6) .

و قال : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح (7) .

و في حديث شريك أنه رأى موسى في السابعة ـ قال : بتفضيل كلام الله .
قال : ثم عُليَّ به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، فقال موسى : لم أظن أن يُرفع عليَّ أحد .

و قد روُي عن أنس أنه صلى الله عليه و سلم صلى بالأنبياء ببيت المقدس .

و عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينما أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر(8) ، فقعدَ في واحدة و قعدتُ في الأخرى ، فَنَمَت(9) حتى سَدَّت الخافقين(10) . و لو شئتُ لمسستُ السماء ، و أنا أقلِّبُ طرفي ، و نظرتُ جبريل كأنه حَلْسٌ(11) لاطيء(12) فعرفتُ فضل علمه بالله عليَّ ، و فُتح لي باب السماء ، و رأيت النور الأعظم ، ولطَّ(13) دوني الحجاب ، و فَرَجَهُ الدُّر و الياقوت . ثم أوحى الله إليَّ ما شاء أن يُوحي) .




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (وقد بُعث إليه؟) : وفي بعض روايات الصحيح : أُرسل إليه؟ ,,, وظاهره السؤال عن أصل الرسالة , ولا يصح لأن أمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لا يكاد يخفى على خزان السموات وحراسها , فالمراد (أأرسل إليه للعروج والإسراء؟) وكان سؤالهم للاستعجاب بما أنعم الله عليه أو الإستبشار بعروجه , قال الطبري ويُحتمل أن تكون البعثة والرسالة خفيت على السائلين لاشتغالهم بالعبادة.
** ( البيت المعمور) : عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه أنه قال : البيت المعمور في السماء السابعة يُقال له الضُرَاح
(1) ظئره : مرضعته

(2) صريف الأقلام : صوت حركتها وجريانها على المخطوط

(3) قال : ربِّ ، هذا غلام : قيل لِمَ أطلق موسى عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وسلم (غلاما) وكان صلى الله عليه وسلم في سن الكهولة إذ ذاك ؟
قيل بأن الغلام يقال بمعنى (المستحكم القوة) ويمكن أن يقال إنما قال ذلك لتقدمه عليه بزمن طويل .

(4) و هي في السماء السادسة : وفي بعض الروايات أنها السابعة , قال المصنِّف : وكونها في السابعة هو الأصح , قال النووي : ويمكن الجمع بأن أصلها في السماء السادسة ومعظمها في السابعة .

(5) خَلا على سبيلك : بمعنى مضى على سبيلك , ومنه قوله تعالى ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)

(6) المقحمات : الذنوب العِظام التي تُقحم أصحابها في النار , أي تلقيهم فيها .

(7) له ستمائة جناح : قال السهيلي في قوله صلى الله عليه وسلم في حق جعفر : (قد أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء) ومما ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين أنهما ليسا كما يسبق إلى الوهم مثل جناح الطائر وريشه , لأن الصورة الآدمية هي أشرف الصور وأكملها ولكنها عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر رضي الله عنه كما أعطيها الملائكة , وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة إنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير وإنما هي صفات ملكية لا تُفهم إلا بالمعاينة , واحتجوا بقوله تعالى(أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) فكيف يكون كأجنحة الطير ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة و لا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل ؟ فدل على أنها صفات تنضبط كيفيتها للفكر.

(8) وكري الطائر : الوكر هو العش

(9) فَنَمَت : أي ارتفعت

(10) الخافقين : أي المشرق والمغرب , قال ابن السكيت : لأن الليل والنهار يخفقان فيهما

(11) حَلْسٌ : الحلس هو كساء يلي ظهر البعير .

(12) لاطيء : لاصق

(13) ولطَّ دوني الحجاب : أي أُرخِي
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



هل كان الإسراء بالروح أو بالجسد ؟

ثم اختلف السلف و العلماء : هل كان إسراؤه بروحه أو جسده ؟ ... على ثلاث مقالات :
فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح ، و أنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي ، و إلى هذا ذهب معاوية . و حُكي عن الحسن ، و المشهور عنه خلافه ، و إليه أشار محمد بن اسحاق ، و حجتهم قوله تعالى :( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) .
و ما حكوا عن عائشة رضي الله عنها : ما فقدتُ جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قوله : (بينا أنا نائم) .
و قول أنس : و هو نائم في المسجد الحرام ... و ذكر القصة ، ثم قال في آخرها : (فاستيقظتُ و أنا بالمسجد الحرام) .
وذهب معظم السلف و المسلمين إلى أنه إسراء بالجسد و في اليقظة ، و هذا هو الحق ، و هو قول ابن عباس ، و جابر ، و أنس ، و حذيفة ، و عمر ، و أبي هريرة ، و مالك بن صعصعة ، و أبي حبة البدري ، و ابن مسعود ، و الضحاك ، و سعيد بن جبير ، و قتادة ، و ابن المسيب ، و ابن شهاب ، و ابن زيد ، و الحسن ، و إبراهيم ، و مسروق ، و مجاهد ، و عكرمة ، و ابن جريج ، و هو دليل قول عائشة ، و هو قول الطبري ، و ابن حنبل ، جما عة عظيمة من المسلمين . و قول أكثر المتأخرين من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين و المفسرين .
و قالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس ، و إلى السماء بالروح ، و احتجوا بقوله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) ، فجعل (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القُدرة ، و التمدُّح بتشريف النبي محمد الله صلى الله عليه و سلم به ، و إظهار الكرامة له بالإسراء إليه .
قال هؤلاء : و لو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .
ثم اختلفت هذه الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟
ففي حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه . و أنكر ذلك حذيفة بن اليمان ، و قال : و الله ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا .
قال القاضي وفقه الله : و الحقُّ من هذا و الصحيح إن شاء الله إنه إسراء بالجسد و الروح في القصة كلها ، و عليه تدل الآية ، و صحيح الأخبار ، و الإعتبار ، و لا يعدل عن الظاهر و الحقيقة إلى التأويل إلا عند الإستحالة ، و ليس في الإسراء بجسده و حال يقظته استحالة ، إذ لو كان مناماً لقال : بروح عبده ، و لم يقل : بعبده . و قوله تعالى : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) و لو كان مناماً لما كانت فيه آية و لا معجزة ، و لما استبعده الكفار ، و لا كذبوه فيه ، و لا ارتد به ضعفاء من أسلم ، و افتتنوا به ، إذ مثل هذا من المنامات لا يُنكر ، بل لم يكن ذلك منهم إلا و قد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه و حال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس ـ أو في السماء على ما روي غيره و ذكر مجيء جبريل له بالبراق و خبر المعراج ، و استفتاح السماء ، فيقال : ومن معك ؟ فيقول : محمد ، و لقائه الأنبياء فيها ، و خبرهم معه ، و ترحيبهم به ، و شأنه في فرض الصلاة و مراجعته مع موسى في ذلك .
و في بعض هذه الأخبار : فأخذ ـ يعني جبريل ـ بيدي فعرج بي إلى السماء ... إلى قوله : (ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام )و أنه وصل إلى سدرة المنتهى ، و أنه دخل الجنة ، و رأى فيها ما ذكره .
قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه و سلم لا رؤيا منام .
و عن أم هانئ : ما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و هو في بيتي ، تلك الليلة صلى العشاء الآخرة ، و نام بيننا ، فلما كان قبيل الفجر أهَبَّنَا(1) رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما صلى الصبح و صلينا قال : (يا أم هانئ ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئتُ بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون) .
و هذا بيِّنٌ في أنه بجسمه .
و عن أبي بكر من رواية شداد بن أوس عنه ـ قال للنبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسرى به :
طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : (إن جبريل عليه السلام حملني إلى المسجد الأقصى) .
و عن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (صليتُ ليلة أُسري بي في مُقَدَّم المسجد ، ثم دخلت الصخرة فإذا بملك قائم معه آنية ثلاث ..) و ذكر الحديث .
و هذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتُحمل على ظاهرها .
و عن أبي ذر ، عنه صلى الله عليه و سلم : (فُرج سقف بيتي و أنا بمكة ، فنزل جبريل ، فشرح صدري ، ثم غسله بماء زمزم ... )إلى آخر القصة ، (ثم أخذ بيدي ، فعرج بي) . و عن أنس : (أُتِيتُ فانطلقوا بي إلى زمزم ، فشُرح عن صدري) .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه : (لقد رأيتُني في الحِجر ، و قريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أُثبِتها ، فكُرِبتُ(2) كَرْباً ما كُرِبتُ مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه) .
و نحوه عن جابر .
و قد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : (ثم رجعتُ إلى خديجة و ما تحوَّلت عن جانبها).



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أهَبَّنَا : أي ايقظنا
(2) فكُرِبتُ : هو الغمّ الذي يأخذ النفس
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل


إبطال حجج من قال إنها نوم
احتجوا بقوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) فسماها رؤيا ؟
قلنا : قوله سبحانه و تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) يردُّه ، لأنه لا يقال في النوم : أسرى .
وقوله : فتنة للناس . يؤيد أنها رؤيا عين ، و إسراءٌ بشخص ، إذ ليس في الحلم فتنة . و لا يكذب به أحد ، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة.
على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبية(1) ، و ما وقع في نفوس الناس من ذلك . و قيل غير هذا .
و أما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناماً .
و قوله في حديث آخر : (بين النائم و اليقظان) .
و قوله أيضاً : و هو نائم . و قوله : ثم استيقظت ـ فلا حجة فيه ، إذ قد يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان و هو نائم ، أو أول حمله و الإسراء به و هو نائم ، و ليس في الحديث أنه كان نائماً في القصة كلها إلا ما يدل عليه : (ثم استيقظت و أنا في المسجد الحرام) ، فلعل قوله : استيقظت بمعنى أصبحت ، أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته .
و يدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله ، و إنما كا ن في بعضه .
و قد يكون قوله : استيقظت و أنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السموات و الأرض ، و خامر(2) باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، و ما رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يستفق و يرجع إلى حال البشرية إلا و هو بالمسجد الحرام .
و وجه ثالث أن يكون نومه و استيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، و لكنه أسرى بجسده و قلبه حاضر ، و رؤيا الأنبياء حق ، تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم .
و قد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميص عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله تعالى .
و لا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، و لعله كانت له في هذا الإسراء حالات .
و وجه رابع ، و هو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الإضطجاع ، و يقويه قوله في رواية عبد بن حميد ، عن همّام : بينا أنا نائم ـ و ربما قال : مُضَّجِع .
و في رواية هدبة ، عنه : بينا أنا نائم في الحطيم ـ و ربما قال : في الحجر مُضَّجِع و قوله في الرواية الأخرى : بين النائم و اليقظان .
فيكون سمى هيئة النائم غالباً .
و ذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات : من النوم ، و ذكر شق البطن ، و دنو الرب عز و جل الواقعة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس ، فهي منكرة من روايته ، إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره صلى الله عليه و سلم و قبل النبوة ، و لأنه قال في الحديث : قبل أن يبعث ، و الإسراء بإجماع كان بعد المبعث ، فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس ، مع أن أنساً قد بيَّن من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره ، و أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال ـ مرة : عن مالك بن صعصعة ، و في كتاب مسلم : لعله عن مالك بن صعصعه ـ على الشك . و قال مرة : كان أبو ذر يحدث .
و أما قول عائشة : ما فقدتُ جسده ، فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ، لأنها لم تكن حينئذ زوجه ، و لا في سن من يضبط ، و لعلها لم تكن وُلدت بعد ، على الخلاف في الإسراء متى كان ، فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول الزهري و من وافقه بعد المبعث بعام و نصف ، و كانت عائشة في الهجرة بنتُ نحو ثمانية أعوام .
و قد قيل : كان الإسراء لخمس قبل الهجرة . و قيل : قبل الهجرة بعام . و الأشبه إنه لخمس .
و الحُجة لذلك تطول و ليست من غرضنا ، فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل أنها حدثت بذلك عن غيرها ، فلم يُرجَّح خبرها على خبر غيرها ، و غيرها يقول خلافه مما وقع نصاً في حديث أم هانئ و غيره .
و أيضاً فليس حديث عائشة رضي الله عنها بالثابت ، و الأحاديث الأخر أثبت ، ولسنا نعني حديث أم هانئ ، و ما ذكرت فيه خديجة .
و أيضاً فقد رُويَ في حديث عائشة : (ما فقدتُ) و لم يدخل بها النبي صلى الله عليه و سلم إلا بالمدينة .
و كل هذا يُوهِّنه ، بل الذي يدل عليه صحيح قولها : إنه بجسده ، لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين ، و لو كانت عندها مناماً لم تنكره .
فإن قيل : فقد قال تعالى : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) فقد جعل ما رآه للقلب ، و هنا يدل على أنه رؤيا نوم و وحي ، لا مشاهدة عين و حس .
قلنا : يقابله قوله تعالى : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)فقد أضاف الأمر للبصر .
و قد قال أهل التفسير في قوله تعالى . (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، أي لم يُوهِم القلبُ العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها .
و قيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه .





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحديبية : هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة نحو مرحلة من مكة .

(2) خامر : أي خالَط
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



رؤيته لربه عز و جل و اختلاف السلف فيها
و أما رؤيته صلى الله عليه و سلم لربه جل و عز ـ فاختلف السلف فيها ، فأنكرته عائشة .
عن عامر عن مسروق أنه قال لعائشة رضي الله عنها يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قَفَّ شعري مما قلت , ثلاث من حدثك بهن فقد كذب : من حدثك أن محمد اً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : (لا تُدْرِكُهُ الابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ... و ذكر الحديث .
و قال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، و هو المشهور عن ابن مسعود .
و مثله عن أبي هريرة أنه قال : إنما رأى جبريل . و اختُلف عنه .
و قال بإنكار هذا و امتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين ، و الفقهاء و المتكلمين .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه . وروى عطاء عنه أنه رآه بقلبه
.
و عن أبي العالية ، عنه : رآه بفؤاده مرتين .
و ذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله : هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .
و الأشهر عنه انه رأى ربه بعينه ، رُوي ذلك عنه من طُرق ، و قال : إن الله تعالى اختص موس بالكلام ، و إبراهيم بالخلة ،و محمداً بالرؤية و حُجته قوله تعالى : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى)
قال الماوردي : قيل : إن الله تعالى قَسَمَ كلامه و رؤيته بين موس ، و محمد صلى الله عليه و سلم ، فر آه محمد مرتين ، و كلمه موس مرتين .
و حكى أبو الفتح الرازي ، و أبو الليث السمرقدي الحكاية عن كعب .
و روى عبد الله بن الحارث ، قال : اجتمع ابن عباس و كعب ، فقال ابن عباس : أما نحن بنو هاشم فنقول : إن محمد اً قد رأى ربه مرتين ، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال
و قال : إن الله قسم رؤيته و كلامه بين محمد و موس ، فكلمه موسى ، و رآه محمد بقلبه .
و روى شريك عن أبي ذر رضي الله عنه في تفسير الآية ، قال : رأى النبي صلى الله عليه و سلم ربه .
و حكى السمرقندي ، عن محمد بن كعب القرظي ، و ربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم سُئل : هل رأيت ربك ؟ قال : (رأيته بفؤادي و لم أره بعيني) .
و روى مالك بن يخامر ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : (رأيت ربي ... )و ذكر كلمة ، فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث .
و حكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف با الله لقد رأى محمد ربه .
و حكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة .
و حكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود .
و حكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة . هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .
و حكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل : أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه رآه ـ حتى انقطع نَفَسَهُ ـ يعني نَفَس أحمد بن حنبل .
و قال سعيد بن جبير : لا أقول رآه ، و لا لم يره .
و قد اختُلف في تأويل الآية عن ابن عباس ، و عكرمه ، و الحسن ، و ابن مسعود ، فحُكى عن ابن عباس و عكرمة : رآه بقلبه . و عن الحسن و ابن مسعود : رأى جبريل . و حكى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، أنه قال : رآه .
وعن ابن عطاء في قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) قال : شرح صدره للرؤية و شرح صدر موسى للكلام .
و قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه و جماعة من أصحابه أنه رأى الله تعالى ببصره و عيني رأسه ، ، و قال : كل آية أُوتيها نبي من الأنبياء عليهم السلام فقد أُوتي مثلها نبينا ، و خُصَّ من بينهم بتفضيل الرؤية .
و وقف بعض مشايخنا في هذا ، و قال : ليس عليه دليل واضح ، و لكنه جائز أن يكون .
قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : و الحق الذي لا امتراء فيه ـ أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلاً ، و ليس في العقل ما يُحيلُها .
و الدليل على جوازها في الدنيا سؤال موس عليه السلام لها . و مُحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله و ما لا يجوز عليه ، بل لم يسأل إلا جائزاً غير مستحيل ، و لكن وقوعه و مشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا من علَّمه الله ، فقال له الله تعالى : (لَنْ تَرَانِي) أي لن تطيق ، و لا تحتمل رؤيتي ، ثم ضرب له مثلاً مما هو أقوى من بنية موس و أثبت ، و هو الجبل .
و كل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا ، بل فيه جوازها على الجملة ، و ليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها و لا امتناعها ، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة .
و لا حُجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الابْصَارُ) لاختلاف التأويلات في الآية إذ ليس يقتضي قول من قال في الدنيا الإستحالة .
و قد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية و عدم استحالتها على الجملة .
و قد قيل : لا تدركه أبصار الكفار . و قيل : (لا تُدْرِكُهُ الابْصَارُ) : لا تُحيط به ، و هو قول ابن عباس . و قد قيل : لا تدركه الأبصار ، و إنما يُدركه المبصرون .
و كل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية و لا استحالتها . و كذلك لا حجة لهم بقوله تعالى : (لَنْ تَرَانِي) و قوله : (تُبْتُ إِلَيْكَ) ـ لما قدمناه ، و لأنها ليست على العموم ، و لأن من قال : معناها : لن تراني في الدنيا ـ إنما هو تأويل .
و أيضاً فليس فيه نص الامتناع ، و إنما جاءت في حق موس ، و حيث تتطرَّق التأويلات و تتسلط الإحتمالات ، فليس للقطع إليه سبيل .
و قوله : (تُبْتُ) أي من سؤالي ما لم تُقَدِّره لي .
و قد قال أبو بكر الهذلي ـ في قوله : (لَنْ تَرَانِي) أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليَّ في الدنيا ، و أنه من نظر إليَّ مات .
و قد رأيت لبعض السلف و المتأخرين ما معناه : إن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة ، لضعف تركيب أهل الدنيا ، و قواهم ، و كونها متغيرة عرضاً للآفات و الفناء ، فلم تكن لهم قوة على الرؤية ، فإذا كان في الآخرة و رُكِّبُوا تركيباً أخر ، و رُزقُوا قوى ثابتة باقية ، و أتمَّ أنوار أبصارهم و قلوبهم قَوُوا بها على الرؤية .
و قد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس رحمه الله ، قال : لم يُر في الدنيا ، لأنه باقٍ ، و لا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة و رُزقوا أبصاراً باقية رُئي الباقي بالباقي .
و هذا كلام حسن مليح ، و ليس فيه دليل على الإستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ، فإذا قوَّى الله تعالى من شاء من عباده ، و أقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع في حقه .
و قد تقدم ما ذُكر في قوة بصر موسى و محمد عليهما الصلاة و السلام ، و نفوذ إدراكها بقوة إلهية مُنحاها لإدراك ما أدركاه ، و رؤية ما رأياه . و الله أعلم .
و الله قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب ، أو كيف شاء ، لا إله غيره .
فإن ورد حديث نَصٌّ بَيِّنٌ في الباب اعتُقِد و وجب المصير إليه ، إذ لا استحالة فيه ، و لا مانع قطعيِّ يرده ، و الله الموفق للصواب .
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في ما ورد في قصة الإسراء من مناجاته ربه
و أما ما ورد في هذه القصة من مناجاته لله تعالى و كلامه معه بقوله : (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) إلى ما تضمنته الأحاديث ـ فأكثر المفسرين على أن الـمُوحِي هو الله عز و جل إلى جبريل ، و جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم إلا قليلا منهم ..
فذُكر عن جعفر بن محمد الصادق ، قال : أوحى إليه بلا واسطة ، و نحوه عن الواسطي ، و إلى هذا ذهب بعض المتكلمين أن محمداً كلم ربه في الإسراء .
و حُكي عن الأشعري ، و حكي عن ابن مسعود و ابن عباس ، و أنكروه آخرون .
و ذكر النقَّاش ، عن ابن عباس في قصة الإسراء ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله : دنا فتدلى ـ قال : (فارقني جبريل ، و انقطعت الأصوات عني ، فسمعتُ كلام ربي و هو : يقول ليهدأ َروْعُك (1) يا محمد ، ادن ، ادن) .
و في حديث أنس في الإسراء نحو منه .
و قد احتجوا في هذا بقوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)
فقالوا : هي ثلاثة أقسام : من وراء حجاب كتكليم موسى .
و بإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء و أكثر أحوال نبينا صلى الله عليه و سلم .
الثالث : قوله : وحياً ، و لم يبق من تقسيم الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة .
و قد قيل : الوحي هنا : هو ما يلقيه في قلب النبي دون واسطة .
و قد ذكر أبو بكر البزار ، عن علي في حديث الإسراء ما هو أوضح في سماع النبي صلى الله عليه و سلم لكلام الله من الآية : فذكر فيه : فقال الـمَلَك : الله أكبر . الله أكبر ـ فقيل لي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر . و قال في سائر كلمات الآذان مثل ذلك .
و يجيء الكلام في مشكل هذين الحديثين في الفصل بعد هذا مع ما يُشْبِهُهُ . و في أول فصل من الباب منه .
و كلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم و من اختصه من أنبيائه ، جائز غير ممتنع عقلاً ، و لا ورد في الشرع قاطع يمنعه ، فإن صح في ذلك خبر احتمل عليه ، و كلامه تعالى لموسى كائن حق مقطوع به ، نَصَّ ذلك في الكتاب ، و أكده بالمصدر دلالة على الحقيقة ، ورفع مكانه على ما ورد في الحديث : في السماء السابعة بسبب كلامه .
و رفع محمداً فوق هذا كله حتى بلغ مستوى ، و سمع صريف الأقلام ، فكيف يستحيل في حق هذا أو يَبْعُدُ سماع الكلام ؟
فسبحان من خص من شاء بما شاء ، و جعل بعضهم فوق بعض د رجات .



______________________________________________

(1) ليهدأ رَوْعُك : الروع : هو الفزع
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



فيما ورد في الحديث الإسراء من الدُنو والقُرب
وأما ما ورد في حديث الإسراء وظاهرة الآية : من الدنو و القرب من قوله : (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (1) و أكثر المفسرين أن الدنو و التدلي منقسم ما بين محمد وجبريل عليه السلام ، أو مختص بأحدهما من الآخر ، أو مِن السدرة المنتهى.
قال الرازي : و قال ابن عباس : هو محمد دنا فتدلى من ربه .
وقيل : معنى دنا (قَرُبَ) ، و تدلى (زاد في القرب) . و قيل : هما بمعنى واحد ، أي قَرُبَ .
وحكى مكي ، و الماوردي - عن ابن عباس : هو الرب دنا من محمد ، فتدلى إليه ، أي أمرهُ وحُكمُهُ .
وحكى النقاش عن الحسن ، قال : دنا من عبده محمد صلى الله عليه و سلم ، فتدلى ، فقَرُبَ منه ، فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته .
قال : وقال ابن عباس : هو مُقَدَّمٌ ومؤخَّرُ : تدلَّى الرفرف(2) لمحمد صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج ، فجلس عليه ، ثم رفع فدنا من ربه .
قال : (فارقني جبريل ، وانقطعت عني الأصوات ، وسمعت كلام ربي عز وجل) .
وعن أنس في الصحيح : (عَرَجَ بي جبريل إلى سدرة المنتهى ودنا الجبَّار رب العزة ، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه بما شاء و أوحى إليه خمسين صلاة . . .) وذكر حديث الإسراء .
وعن محمد بن كعب : هو محمد دنا من ربه ، فكان كقاب قوسين .
قال : و قال جعفر بن محمد : أدناه ربه منه حتى كان منه كقاب قوسين .
و قال جعفر بن محمد : والدنو من الله لا حد له ، ومن العباد بالحدود .
و قال أيضاً : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حَجب جبريل عن دنوه ، ودنا محمد صلى الله عليه و سلم إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان ، فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه ، وزال عن قلبه الشك والارتياب؟ .
قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله ، أو إلى الله فليس بدنو مكان ، ولا قرب مدىً (3) ، بل كما ذكرناه عن جعفر بن محمد الصادق : ليس بدنو حَدِّ ، وإنما دنو النبي صلى الله عليه و سلم من ربه وقربه منه إبانةُ عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ، ومن الله تعالى له مَبَرَّة(4) وتأنيسٌ ، وبسطٌ ، وإكرام ، و يُتأول فيه ما يُتأول في قوله : (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) على أحد الوجوه : نزول إفضال وإجمال ، وقبول وإحسان .
قال الواسطي : من توهَّم أنه بنفسه دنا جعل ثَمَّ مسافة ، بل كلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعداً يعني عن درك حقيقته ، إذ لا دنو للحق ولا بُعد .
وقوله : قاب قوسين أو أدنى فمن جعل الضمير عائداً إلى الله ، لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه و سلم ، وعبارةً عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التَّحفِّي(5) ، وإنافة(6) المنزل والمرتبة من الله له .
ويُتأول فيه ما يُتأول في قوله : (من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً) ، قرب بالإجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول .

_______________________________________________________

(1) قاب قوسين : أي مقدار قوسين
(2) الرفرف : البساط , وقيل كان من الديباج
(3) مدىً : غاية
(4) مَبَرَّة : أي بِرّاً
(5) التَّحفِّي : المبالغة في الإلطاف والكرم
(6) وإنافة : أي زيادة
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في ذكر تفضيله يوم القيامة بخصوص الكرامة
عن الربيع بن أنس ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أنا أول الناس خروجاً إذا بُعثُوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيَسُوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) (1) .
وفي رواية ابن زخر ، عن الربيع بن أنس - في لفظ هذا الحديث : (أنا أول الناس خروجاً إذا بُعِثوا ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حُبسوا و أنا مبشرهم إذا أُبلِسُوا (2) لواء الكرم بيدي ، و أنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر و يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : (و أُكسى حُلَّةً من حُلل الجنة ، ثم أقومُ عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، و بيدي لواء الحمد و لا فخر ، و ما نبيٍّ يومئذ ، آدم فمن سواه ، إلا تحت لوائي ، و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر) .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، و أول من ينشق عنه القبر ، و أول شافع ، و أول مُشفَّعٍ) .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما : (أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة و لا فخر ، و أنا أول شافع ، و أنا أول مُشفَّع ، و لا فخر ، و أنا أول من يحرك حلق الجنة (3) ، فيُفتح لي فأدخلها و معي فقراء المؤمنين و لا فخر ، و أنا أكرم الأولين و الآخِرين و لا فخر) .
و عن أنس : (أنا أول الناس يشفع في الجنة ، و أنا أكثر الناس تبعاً ).
و عن أنس رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : (أنا سيد الناس يوم القيامة ، و تدرون بم ذلك ؟ يجمع الله الأولين و الآخِرين ... ) و ذكر حديث الشفاعة .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : (أطمع أن أكون أعظم الأنبياء أجراً يوم القيامة) .
و في حديث آخر : (أما ترضون أن يكون إبراهيم و عيسى فيكم يوم القيامة؟) ثم قال: (إنهما في أمتي يوم القيامة ، أما إبراهيم فيقول : أنت دعوتي و ذرِّيتي ، فاجعلني من أُمتك . و أما عيسى فالأنبياء إخوة بنو عَلاَّتٍ(4) ، أمهاتهم شتى ، و إن عيسى أخي ليس بيني و بينه نبي ، و أنا أولى الناس به) .
قوله : أنا سيد الناس يوم القيامة : هو سيدهم في الدنيا و يوم القيامة . و لكن أشار صلى الله عليه و سلم لإنفراده فيه بالسُؤدد و الشفاعة دون غيره ، إذ لجأ الناس إليه في ذلك ، فلم يجدوا سواه .
و السيد : هو الذي يلجأ الناس إليه في حوائجهم ، فكان حينئذ سيداً منفرداً من بين البشر ، لم يزاحمه أحد في ذلك ، و لا ادِّعاه ، كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
و الملك له تعالى في الدنيا و الآخرة ، لكن في الآخرة انقطعت دعوى المدعي لذلك في الدنيا .
و كذلك لجأ إلى محمد صلى الله عليه و سلم جميع الناس في الشفاعة ، فكان سيدهم في الأُخرى دون دعوى .
و عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (آتي باب الجنة يوم القيامة ، فأستفتحُ فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد . فيقول : بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) .
و عن عبد الله بن عمرو : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (حوضي مسيرة شهر ، و زواياه سواءٌ ، و ماؤه أبيض من الوَرِق(5) و ريحهُ أطيب من المسك ، كيزانه كنجوم السماء ، من شرب منه لم يظمأ أبداً) .
و عن أبي ذر نحوه ، و قال : (طُولُهُ ما بين عُمَان إلى أيلة (6) ، يشخُبُ فيه ميزابان من الجنة) .
و عن ثوبان مثله ، و قال : أحدهما من ذهب ، و الآخر من وَرِق .
و في رواية حارثة بن وهب : كما بين المدينة و صنعاء.
و قال أنس : أيلة و صنعاء .
و قال ابن عمر : كما بين الكوفة و الحجر الأسود .
و روى حديث الحوض أيضاً أنس ، و جابر بن سمرة ، و ابن عمر ، و عقبة بن عامر ، و حارثة بن وهب الخزاعي ، و المستورد ، و أبو برزة الأسلمي ، و حذيفة بن اليمان ، و أبو أمامة ، و زيد بن أرقم ، و ابن مسعود ، و عبد الله بن زيد ، و سهل بن سعد ، و سويد بن جبلة ، و أبو بكر ، و عمر بن الخطاب ، و ابن بريدة ، و أبو سعيد الخدري ، و عبد الله الصنابجي ، و أبو هريرة ، و البراء ، و جندب ، و عائشة ، و أسماء بنت أبي بكر ، و أبو بكرة ، و خولة بنت قيس ، و غيرهم , رضي الله عنهم أجمعين .




____________________________________________
(1) ولا فخر : أي قلتُ ذلك امتثالا لأمر لربي لا افتخارا
(2) أُبلِسُوا : أي يئسوا ومنه قوله تعالى (فإذا هم مبلسون)
(3) حلق الجنة : جمع حلقة , حلقة الباب , والجمع حلق وحلقات
(4) بنو عَلاتٍ : بنو العلات أولاد الرجل من نسوة شتى , والمعنى أن الأنبياء متفقون في اصول الشريعة متباينون في فروعها .
(5) من الوَرِق : هي الدراهم المضروبة , وهي الفضة
(6) أيلة :بلد في طرف الشام
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في تفضيله بالمحبة و الخُلَّة
جاءت بذلك الآثار الصحيحة ، و اختُص على ألسنة المسلمين بحبيب الله ،عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال : (لو كنتُ متخذا خليلاً غير ربي لاتخذتُ أبا بكر) .
و في حديث آخر (وإنَّ صاحبكم خليل الله) .
و من طريق عبد الله بن مسعود : (و قد اتخذ الله صاحبكم خليلاً) .
و عن ابن عباس ، قال : جلس ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ينتظرونه ، قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجباً ! إن الله اتخذ من خلقه خليلاً ، اتخذ إبراهيم خليلاً .
و قال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الله تكليماً .
و قال آخر : فعيسى كلمه الله و روحه .
و قال آخر : و آدم اصطفاه الله .
فخرج عليهم فسلَّم ، و قال : (قد سمعت كلامكم و عجبكم : أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً و هو كذلك ، و موسى نجي الله و هو كذلك ، و عيسى روح الله و هو كذلك ، و آدم اصطفاه الله و هو كذلك ، ألا و أنا حبيب الله و لا فخر ، و أنا أول شافع و أول مُشفَّع و لا فخر ، و أنا أول من يحرك حَلَقَ الجنة فيفتحُ الله لي فيُدْخِلنيها و معي فقراء المؤمنين و لا فخر ، و أنا أكرم الأولين و الآخِرِين ولا فخر) .


قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : اُختُلف في تفسير الخُلَّة ، و أصل اشتقاقها ، فقيل : الخليل : المنقطع إلى الله الذي ليس في انقطاعه إليه و محبته له اختلال .
و قيل : الخليل الـمُختص ، و اختار هذا القول غير واحد .
و قال بعضهم : أصل الخلة الاستصفاء : و سُمي إبراهيم خليل الله ، لأنه يُوالي فيه و يعادي فيه ، و خلة الله له نصره ، و جعله إماماً لمن بعده .
و قيل : الخليل : أصله الفقير المحتاج المنقطع ، مأخوذ من الخَلَّة و هي الحاجة ، فسُمي بها إبراهيم ، لأنه قصر حاجته على ربه ، و انقطع إليه بهمِّه ، و لم يجعله قِبَل غيره إذ جاءه جبريل و هو في المنجنيق ، ليُرمى به في النار ، فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا .
و قال أبو بكر بن فورك : الخلة : صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلُل الأسرار .
و قال بعضهم : أصل الخلة المحبة ، و معناها الإسعاف ، و الإلطاف ، و الترفيع ، و التشفيع ، و قد بين ذلك في كتابه تعالى بقوله : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ).
فأوجب للمحبوب ألا يؤاخذ بذنوبه .
قال : هذا ، و الخلة أقوى من البُنُوَّة ، لأن البنوة قد تكون فيها العداوة ، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).
و لا يصح أن تكون عداوة مع خلة ، فإذن تسمية إبراهيم و محمد عليهما الصلاة و السلام بالخلة
إما بانقطاعهما إلى الله و وقف حوائجهما عليه ، و الانقطاع عمن دونه ، و الإضراب عن الوسائط و الأسباب
أو لزيادة الاختصاص منه تعالى لهما ، و خفي إلطافه عندهما ، و ما خالل بواطنهما من أسرار إلهِيَّته ، و مكنون غيوبه و معرفته ، أو لاستصفائه لهما ، و استصفاء قلوبهما عمن سواه ، حتى لم يخاللهما حب لغيره ، و لهذا قال بعضهم : الخليلُ من لا يتسع قلبه لسواه و هو عندهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم : (و لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن أُخُوَّة الإسلام) .
و اختلف العلماء أرباب القلوب : أيهما أرفع درجة : الخلة أو درجة المحبة ؟
فجعلهما بعضهم سواء فلا يكون الحبيب إلا خليلا ، و لا الخليل إلا حبيباً لكنه خص إبراهيم بالخلة ، و محمداً بالمحبة .
و بعضهم قال : درجة الخلة أرفع ، و احتج بقوله صلى الله عليه و سلم : (لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي عز و جل ...).
و قد أطلق المحبة لفاطمة ، و ابنيها ، و أسامة و غيرهم .
و أكثرهم جعل المحبة أرفع من الخلة ، لأن درجة الحبيب نبينا أرفع من درجة الخليل إبراهيم .
و أصل المحبة الميل إلى ما يوافق الـمُحِبُّ : و لكن هذا في حق من يصح الميل منه و الانتفاع بالوَفْقِ ، و هي درجة المخلوق ، فأما الخالق ـ جل جلاله ـ فمنزَّهٌ عن الأغراض ، فمحبته لعبده تمكينهُ من سعادته ، و عصمته و توفيقه و تهيئة أسباب القرب ، و إفاضة رحمته عليه ، و قصواها كشُفُ الحُجُب عن قلبه حتى يراه بقلبه ، و ينظر إليه ببصيرته ، فيكون كما قال في الحديث : (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و لسانه الذي ينطق به) .
و لا ينبغي أن يُفهم من هذا سِوى التجرد لله ، و الانقطاع إلى الله ، و الإعراض عن غير الله ، و صفاء القلب لله ، و إخلاص الحركات لله ، كما قالت عائشة رضي الله عنه : كان خُلُقُهُ القرآن ، برضاه يرضى ، و بسخطه يسخط .
و من هذا عبر بعضهم عن الخلة بقوله :
قد تخللتَ مسلك الروح مني و بذا سُمي الخليلُ خليلا
فإذا ما نطقتُ كنت حديثي و إذا ما سكتُّ كنت الغليلا (1)
فإذن مزيةُ الخلة و خصوصية المحبة حاصلة لنبينا صلى الله عليه و سلم بما دلت عليه الآثار الصحيحة المنتشرة ، المتلقَّاة بالقبول من الأمة ، و كفى بقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حكى أهل التفسير أن هذه الآية لما نزلت قال الكفار : إنما يريد محمد أن نتخذهُ حناناً كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ، فأنزل الله _ غيظاً لهم و رغماً على مقالتهم - هذه الآية : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) فزاده شرفاً بأمرهم بطاعِتِه ، و قرنها بطاعته ، ثم توعدهم على التولِّي عنه بقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)
و قد نقل الإمام أبو بكر بن فورك عن بعض المتكلمين كلاماً في الفرق بين المحبة و الخلة يطول ، جملة إشاراته إلى تفضيل مقام المحبة على الخلة ، و نحن نذكر منه طرفاً يهدي إلى ما بعده .
فمن ذلك قولهم : الخليل يصل بالواسطة ، من قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)
و الحبيب يصل لحبيبه به ، من قوله : (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) .
و قيل : الخليل : الذي تكون مغفرته في حد الطمع ، من قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).
و الحبيب الذي مغفرته في حد اليقين ، من قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا).
و الخليل قال : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ).
و الحبيب قيل له : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) فابتُدئ بالبشارة قبل السؤال .
و الخليل قال في الـمِحنة : (حسبي الله).
و الحبيب قيل له : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ).
و الخليل قال : (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ).
و الحبيب قيل له : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) أُعطِي بلا سؤال .
و الخليل قال : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الاصْنَامَ) .
و الحبيب قيل له : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
و فيما ذكرناه تنبيه على مقصد أصحاب هذا المقال من تفضيل المقامات و الأحوال و(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا).




____________________________________________
(1) الغليلا : في الصحاح , الغلة حرارة العطش
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة و المقام المحمود
قال الله تعالى : (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)
عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثِّى(1) كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع لنا ، يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .
و عن أبي هريرة : سُئل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم _ يعني قوله_ : (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، فقال : (هي الشفاعة) .
و روى كعب بن مالك ، عنه صلى الله عليه و سلم : (يُحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا و أمتي على تَلٍّ و يكسوني ربي حُلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقولُ ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود) .
و عن ابن عمر رضي الله عنه ـ و ذكر حديث الشفاعة ـ قال : فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة ، فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذي وُعِدَهُ .
و عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه و سلم أنه قيامه عن يمين العرش مقاماً لا يقومه غيره ، يغبطه فيه الأولون و الآخرون .
و نحوه عن كعب والحسن .
و في رواية : (هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه) .
وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إني لقائمٌ المقام المحمود) . قيل : و ما هو ؟ قال : (ذلك يومٌ ينزل الله تبارك و تعالى على كرسيه . .) الحديث .
و عن أبي موسى رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم : (خُيِّرتُ بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعمُّ ، أترونها للمتقين ؟ لا ، و لكنها للمذنبين الخطائين) .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، ماذا ورد عليك في الشفاعة ؟ فقال : (شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مُخلصاً ، يُصدِّق لسانه قلبه) .
و عن أم حبيبة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أُريتُ ما تلقى أمتي من بعدي ، و سفك بعضهم دماء بعض ، و سبق لم من الله ما سبق للأمم قبلهم ، فسألتُ الله أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم ، ففعل) .
و قال حذيفة : يجمعُ الله الناس ، في صعيد واحد حيث يُسمِعُهُم الداعي ، و يَنْفُذُهم البصر(2) حفاة عراة كما خلقوا ، سكوتاً لا تَكلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه ، فَيُنادَى (محمد) فيقولُ : لبيك و سعديك ، و الخير في يديك ، و الشر ليس إليك (3) و المهتدي من هديت ، و عبدك بين يديك ، و لك و إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت و تعاليت ، سبحانك رب البيت ـ قال : (فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله) .
و قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا دخل أهل النار النار ، و أهل الجنة الجنة ، فيبقى آخر زمرة من الجنة و آخر زمرة من النار ، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة : ما نفعكم إيمانكم ، فيدعون ربهم ويضجون ، فيسمعهم أهل الجنة فيسلون آدم وغيره بعده في الشفاعة لهم ، فكُلٌّ يعتذر حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه و سلم ، فيشفع لهم ، فذلك المقام المحمود .
و نحوه عن ابن مسعود أيضاً ، و مجاهد .
و ذكره علي بن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم .
و عن أنس نحوه ، و قال : فهذا المقام المحمود الذي وعده .
و عن سلمان : المقام المحمود هو الشفاعة في أمته يوم القيامة .
و مثله عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و عن أبي هريرة :( .. وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقولون : ألا تنظرون من يشفع لكم ، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، و اسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ .
فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهائي عن الشجرة فعصيتُ ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .
فيأتون نوحاً فيقولون : أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما بلغنا ‍‍‍‍‍‍‍ ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، نفسي ! نفسي !
قال ـ في رواية أنس رضي الله عنه : ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم .
وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه : وقد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، اذهبوا إلى غيري . اذهبوا إلى إبراهيم ، فإنه خليل الله .
فيأتون إبراهيم ، فيقولون : أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟
فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً . . . فذكر مثله ، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن . نفسي ، نفسي ، لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله .
وفي رواية : فإنه عبد آتاه الله التوراة ، وكلمه وقربه نجيَّاً .
قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته التي أصاب ، وقتله النفس ، نفسي ، نفسي ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته .
فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فأُوتى ، فأقول : أنا لها .
فأنطلق فاستأذن على ربي ، فيؤذن لي ، فإذا رأيتُهُ وقعتُ ساجداً .
وفي رواية : فآتي تحت العرش ، فأخرُّ ساجداً .
وفي رواية : فأقوم بين يديه ، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يُلهمنيها الله .
وفي رواية : فيفتح الله عليَّ من محامده ، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي .
قال ـ في رواية أبي هريرة : فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تُعطه ، و اشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : يا رب ، أمتي ، يا رب ، أمتي . فيقول : أدخل مِن أمتك مَن لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .
و لم يذكر في رواية أنس هذا الفصل ، و قال مكانه : ثم أخر ساجداً ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، و قل يُسمع لك ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه . فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقال : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرَّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه ، فأنطلقُ فأفعل .
ثم أرجع إلى ربي ، فأحمده بتلك المحامد و ذكر مثل الأول ، و قال فيه : مثقال حبة من خردل . قال : فأفعل ، ثم أرجع ... و ذكر مثل ما تقدم ، و قال فيه : من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل ، فأفعل .
و ذكر في المرة الرابعة : فيقال لي : ارفع رأسك ، و قل يسمع ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه .
فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله . قال : ليس ذلك إليك . و لكن و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبريائي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله) .
و من رواية قتادة عنه ، قال : (فأقول يا رب ، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن) أي وجب عليه الخلود .
و عن أبي بكر ، و عقبة بن عامر ، و أبي سعيد ، و حذيفة مثله ، قال : فيأتون محمداً فيؤذن له ، و تأتي الأمانة و الرحم فتقومان جنبتي الصراط .
وذكر في رواية أبي مالك ، عن حذيفة : (فيأتون محمداً فيشفع ، فيُضرب الصراط فيمرون : أولهم كالبرق ، ثم كالريح ، و الطير ، و شدَّ الرجال ، و نبيكم صلى الله عليه و سلم على الصراط يقول : اللهم سلِّم سلِّم ،حتى يجتاز الناس . و ذكر آخرهم جوازاً . . . )الحديث .

و في رواية أبي هريرة : (فأكون أول من يُجيز) .
و عن ابن عباس ، عنه صلى الله عليه و سلم : (يُوضع للأنبياء منابر يجلسون عليها ، ويبقى منبري لا أجلسُ عليه , قائماً بين يدي ربي منتصباً ، فيقول الله تبارك و تعالى : ما تريد بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيُدعى بهم ، فيحاسبون . فمنهم من يدخل برحمته ، و منهم من يدخل الجنة بشفاعتي ، و لا أزال أشفع حتى أُعطى صِكاكاً(4) برجال قد أُمر بهم إلى النار ، حتى إن خازن النار ليقول : يا محمد ، ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة ).
ومن طريق زياد النميري ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (أنا أول من تنفلق الأرض عن جُمجمته و لا فخر ، و أنا سيد الناس يوم القيامة و لا فخر ، و معي لواء الحمد يوم القيامة ، و أنا أول من تفتح له الجنة و لا فخر ، فآتي فآخذ بحلقة الجنة ، فيقال : من هذا ؟ فأقول : محمد ، فيُفتح لي ، فيستقبلني الجبار تعالى ، فأخر له ساجداً . . . ) و ذكر نحو ما تقدم .
و من رواية أنيس : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (لأشفعنَّ يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر) .
فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته صلى الله عليه و سلم ، و مقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها ، من حين يجتمع الناس للحشر ، و تضيق بهم الحناجر ، و يبلغ منهم العرق و الشمس و الوقوف مبلغه ، و ذلك قبل الحساب ، فيشفع حينئذ لإراحة الناس من الموقف ، ثم يُوضع الصراط ، و يحُاسب الناس ، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة و حذيفة .
و هذا الحديث أتقن ، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة ـ كما تقدم في الحديث ـ ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ، و دخل النار منهم حسب ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة ، ثم فيمن قال : لا إله إلا الله . و ليس هذا لسواه صلى الله عليه و سلم .
و في الحديث المنتشر الصحيح : (لكل نبي دعوة يدعو بها ، و اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة) .
قال أهل العلم : معناه دعوة أُعْلِموا أنها تُستجاب لهم ، و يبلغ فيها مرغوبهم ، و إلا فكم لكل نبي منهم من دعوة مستجابة ، و لنبينا صلى الله عليه و سلم منها ما لا يعد ، لكن حالهم عند الدعاء بها بين الرجاء و الخوف ، و ضمنت لهم إجابة دعوة فيما شاءوه يدعون بها على يقين من الإجابة .
و قد قال محمد بن زياد ، و أبو صالح ، عن أبي هريرة في هذا الحديث : (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته ، فاستُجيب له ، و أنا أريد أن أدخر ، دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) .
و قي رواية أبو صالح : (لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجَّل كل نبي دعوته) .
و نحوه في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة.
و عن أنس مثل رواية ابن زياد ، عن أبي هريرة .
فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصةً بالأمة مضمونة الإجابة ، و إلا فقد أخبر صلى الله عليه و سلم أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا و أُعطي بعضها ، و مُنع بعضها ، وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة ، و خاتمة المحن ، و عظيم السؤال و الرغبة .

جزاه الله أحسن ما جزى نبياً عن أمته ، و صلى الله عليه و سلم كثيراً .






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جُثِّى : جمع جاث وهو الذي يجلس على ركبتيه

(2) يَنْفُذُهم البصر : اي يبلغ اولهم وآخرهم البصر حتى يراهم كلهم ويستوعبهم

(3) الشر ليس إليك : اي لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك إنما يصعد الكلم الطيب أو لا يضاف إليك أدبا وإن كنت موجدا له بالحقيقة إذ ليس الشر شرا بالنسبة لحكمتك فإنك لا توجد شيئا عبثا .

(4) صِكاكاً : جمع صك وهو الكتاب
صورة العضو الرمزية
ابن عوف
مشاركات: 7729
اشترك في: الخميس 2008.6.19 7:51 pm
مكان: وسط اهلى الطيبين وسمحين

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة ابن عوف »

جزاك الله خير
وانت تتحفنا بروائعك
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

ابن عوف كتب:جزاك الله خير
وانت تتحفنا بروائعك

تسلم كتير يا أخوي الغالي
ومقدما ... رمضان كريم علينا وعليكم وكل المسلمين
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في تفضيله في الجنة بالوسيلة و الدرجة الرفعية و الكوثر و الفضيلة
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه و سلم يقول : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا عليَّ ، فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، و أرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة) .
و في حديث آخر عن أبي هريرة : الوسيلة أعلى درجة في الجنة .
و عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (بينا أنا أسير في الجنة إذ عَرَضَ لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ , قلتُ لجبريل : ما هذا ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكهُ الله . قال : ثم ضرب بيده إلى طينته ، فاستخرج مِسْكاً) .
و عن عائشة و عبد الله بن عمرو مثله ، قال : (و مجراه على الدر و الياقوت ، و ماؤه أحلى من العسل ، و أبيض من الثلج) .
و في رواية ـ عنه : (فإذا هو يجري ، و لم يُشَقَّ شقّاً ، عليه حوض تَرِدُ عليه أمتي . . .)و ذكر حديث الحوض .
و نحوه عن ابن عباس .
و عن ابن عباس أيضاً ، قال : الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه .
و قال سعيد بن جبير : و النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله .
و عن حذيفة فيما ذكر صلى الله عليه و سلم عن ربه : (وأعطاني الكوثر ، و هو نهر في الجنة ، يسيل في حوضي) .
و عن ابن عباس : في قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) قال : ألف قصر من لؤلؤ ترابهن المسك ، و فيه ما يصلحهن .
و في رواية أخرى : وفيه ما ينبغي له من الأزواج و الخدم .
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل


في بيان الرد على شُبهة ما تَقَدم
فإن قلت : إذا تقرر من دليل القرآن ، و صحيح الأثر ، و إجماع الأمة كونه أكرم البشر ، و أفضل الأنبياء فما معنى الأحاديث الواردة بنهيه عن التفضيل ؟ كقوله عن قتادة : سمعت أبا العالية يقول : حدثني ابن عم نبيكم صلى الله عليه و سلم ـ يعني ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : (ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن مَتَّى) .
و في غير هذا الطريق عن أبي هريرة قال يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم : (ما ينبغي لعبد ...) الحديث .
و في حديث أبي هريرة في اليهودي الذي قال : و الذي اصطفى موسى على البشر ، فلطمه رجل من الأنصار ، و قال : تقول ذلك و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال :( لا تُفضِّلوا بين الأنبياء ).
و في رواية : (لا تخيروني على موسى) فذكر الحديث . و فيه : (و لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن مَتَّى) .
رواية عن أبي هريرة : (من قال : أنا خير من يونس بن مَتَّى فقد كذب) .
رواية عن ابن مسعود : (لا يقولون أحدكم أنا خير من يونس بن مَتَّى) .
و في حديثه الآخر : فجاءه صلى الله عليه و سلم رجل ، فقال له : يا خير البرية ، فقال : (ذاك إبراهيم) . . . .
فاعلم أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات :
أحدها : أن نهيه عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، فنهى عن التفضيل ، إذ يحتاج إلى توقيف ، و أن من فضَّل بلا علم فقد كذب .
و كذلك قوله : (لا أقول إن أحداً أفضل منه) لا يقتضي تفضيله هو ، وإنما هو في الظاهر كفٌ عن التفضيل .
الوجه الثاني : أنه قاله صلى الله عليه و سلم على طريق التواضع ، ونفي التكبر والعُجب ، وهذا لا يسلمُ من الاعتراض .
الوجه الثالث : ألا يُفضَّل بينهم تفضيلاً يؤدي إلى تَنَقُّص بعضهم ، أو الغض منه ، لا سيما في جهة يونس عليه السلام ، إذ أخبر الله عنه بما أخبر لئلا يقع في نفس من لا يعلم منه بذلك غضاضة وانحطاط من رتبته الرفيعة ، إذ قال تعالى عنه : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) . (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ـ فربما يُخيَّل لمن لا علم عنده حطيطته ، بذلك .
الوجه الرابع : منع التفضيل في حق النبوة و الرسالة ، فإن الأنبياء فيها على حد واحد ، إذ هي شيء واحد لا يتفاضل. و إنما التفاضل في زيادة الأحوال و الخصوص ، و الكرامات ، و الرتب ، و الألطاف ، و أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، و إنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، و لذلك منهم رسل ، و منهم أولو عزم من الرسل ، و منهم من رُفع مكاناً علياً ، و منهم من أُوتي الحكم صبياً ، و أُوتي بعضهم الزبور ، وبعضهم البينات ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) .
و قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) .
قال بعض أهل العلم : و التفضيل المراد لهم هنا في الدنيا ، و ذلك بثلاثة أحوال :
أن تكون آياته ومعجزاته أبهر ، و أشهر ، أو تكون أمته أزكى و أكثر ، أو يكون في ذاته أفضل و أطهر
و فضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته ، و اختصاصه من كلام أو خلة او رؤية أو ما شاء الله من ألطافه ، و تُحف ولايته و اختصاصه .
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إن للنبوة أثقالاً ، و إن يونس تَفَسَّخَ منها تفسُخ الرُّبَع) فحفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم موضع الفتنة ، من أوهام من يسبق إليه بسببها جَرحٌ في نبوته ، أو قدحٌ في اصطفائه ، و حطٌّ في رتبته ، و وهن في عصمته ، شفقة منه صلى الله عليه و سلم على أمته .
وقد يتوجَّه على هذا الترتيب ، وجه خامس ، و هو أن يكون (أنا) راجعاً إلى القائل نفسه ، أي لا يظن أحدٌ و إن بلغ من الذكاء و العصمة و الطهارة ، ما بلغ , أنه خير من يونس ، لأجل ما حكى الله عنه ، فإن درجة النبوة أفضل وأعلى ، وإن تلك الأقدار لم تحُطَّه عنها حبة خردل و لا أدنى .
و سنزيد في القسم الثالث في هذا بياناً إن شاء الله تعالى .
فقد بان لك الغرض ، وسقط بما حررناه شُبهة المعترض ، و بالله التوفيق ، و هو المستعان لا إله إلا هو.
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في أسمائه صلى الله عليه و سلم و ما تضمنته من فضيلته
عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (لي خمسة أسماء أنا محمد ، و أنا أحمد ، و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، و أنا الحاشر الذي يُحشَرُ الناس على قَدَمي، و أنا العاقب) .
و قد سماه الله تعالى في كتابه محمداً ، وأحمد .
فمن خصائصه تعالى له أن ضَمَّنَ أسماءه ثناءه ، فطوى أثناء ذكره عظيم شكره .
فأما اسمه أحمد فأفْعَل مبالغةً من صفة الحمد .
ومحمد : مُفَعَّل ، مبالغة من كثرة الحمد ، فهو صلى الله عليه و سلم أجَلَّ من حَمِدَ ، و أفضل من حُمِدَ ، و أكثر الناس حمداً ، فهو أحمد المحمودين ، و أحمد الحامدين ، و معه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ، ويَتشهَّر في تلك العرصات بصفة الحمد ، ويبعثه ربه هناك مقاماً محموداً كما وعده ، يحمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ، ويفتح عليه فيه من المحامد كما قال صلى الله عليه و سلم ما لم يُعط غيره ، وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين ، فحقيقٌ أن يُسمى محمداً وأحمد .
ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه ، وبدائع آياته فن آخر ، و هو أن الله جل اسمه حمَى أن يُسمى بهما أحد قبل زمانه .
أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يُسمى به أحد غيره ، ولا يُدعى به مدعُوٌّ قبله حتى لا يدخل لَبْسٌ على ضعيف القلب أو شك .
و كذلك محمد أيضاً لم يُسمَّ به أحد من العرب و لا غيرهم إلى أن شاع قُبيل وجوده صلى الله عليه و سلم و ميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك ، رجاء أن يكون أحدهم هو . و الله أعلم حيث يجعل رسالاته
وهم : محمد بن أُحيحة بن الجلاح الأوسي ، و محمد بن مسلمة الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، و محمد بن سفيان بن مجاشع ، و محمد بن حمران الجعفي ، و محمد بن خزاعي السلمي ، لا سابع لهم .
ويقال : أول من سُميَّ محمداً محمد بن سفيان . واليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد .
ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدَّعي النبوة أو يدعيها أحد له ، أو يظهر عليه سبب يشكِّك أحداً في أمره حتى تحققت السِّمتان له صلى الله عليه و سلم ، ولم يُنازع فيهما .
وأما قوله صلى الله عليه و سلم : (و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر) ففُسر في الحديث : و يكون محو الكفر إما من مكة و بلاد العرب ، و ما زُوي له من الأرض ، و وُعد أنه يبلغه ملك أمته ، أو يكون المحو عاماً ، بمعنى الظهور والغلبة ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
و قد ورد تفسيره في الحديث أنه الذي مُحيت به سيئات من اتَّبعه .
و قوله : (و أنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي) أي على زماني و عهدي ، أي ليس بعدي نبي ، كما قال تعالى : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) .
وسمي عاقباً ، لأنه عَقَبَ غيره من الأنبياء .
و في الصحيح : (أنا العاقب الذي ليس بعدي نبي).
و قيل : معنى على قدمي ، أي يُحشر الناس بمشاهدتي ، كما قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
و قيل على قدمي : على سابقتي ، قال الله تعالى :( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)
و قيل : على قدمي : أي قُدَّامي ، وحولي ، أي يجتمعون إليَّ يوم القيامة .
و قيل على قدمي : على سنتي .
ومعنى قوله : (لي خمسة أسماء) : قيل : إنها موجودة في الكتب المتقدمة ، وعند أولى العلم من الأمم السالفة.
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم : لي عشرة أسماء و ذكر منها : طه ، و يس ، حكاه مكي .
و قد قيل في بعض تفسير طه : إنه يا طاهر يا هادي . وفي يس : يا سيد . حكاه السلمي عن الواسطي ، وجعفر بن محمد .
و ذكر غيره : (لي عشرة أسماء) فذكر الخمسة التي في الحديث الأول ، قال : (و أنا رسول الرحمة و رسول الراحة ، و رسول الملاحم ، وأنا الـمُقَفِّي ، قـفَّيتُ النبيين و أنا قَيِّمٌ) .
و القَيِّمُ : الجامع الكامل
و قد وقع أيضاً في كتب الأنبياء : قال داود عليه السلام : اللهم ابعث لنا محمداً مقيم السنة بعد الفترة ، فقد يكون القيم بمعناه .
وروى النقاش عنه صلى الله عليه و سلم : (لي في القرآن سبعة أسماء : محمد ، و أحمد و يس ، و طه ، و المدثر ، و المزمل ، و عبد الله) .
و في حديث ـ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه : هي ست : محمد ، و أحمد ، و خاتم ، و عاقب ، و حاشر ، و ماح .
و في حديث أبي مو سى الأشعري أنه كان صلى الله عليه و سلم يُسمي لنا نفسه أسماء فيقول : (أنا محمد و أحمد ،و الـمُقَفِّي ، و نبي التوبة ، و نبي الملحمة ، و نبي الرحمة) .
و يروى : المرحمة ، و الراحة .
و كلٌّ صحيح إن شاء الله .
و معنى المقفي معنى العاقب .
و أما نبي الرحمة و التوبة ، و المرحمة و الراحة ـ فقال تعال : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)و كما و صفه بأنه يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة . و يهديهم إلى صراط مستقيم . و بالمؤمنين رؤوف رحيم.
و قال في صفة أمته : أنها أمة مرحومة .
و قال الله تعالى فيهم : (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي يرحم بعضهم بعضاً ، فبعثه ربه تعالى رحمة لأمته و رحمة للعالمين ، و رحيماً بهم ، و مرتحماً و مستغفراً لهم ، و جعل أمته مرحومة ، و وصفها بالرحمة و أمرها صلى الله عليه و سلم بالتراحم ، وأثنى عليه فقال : (إن الله يحب من عباده الرحماء) .
و قال : (الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .
و أما رواية نبي الملحمة فإشارة إلى ما بُعث به من القتال و السيف صلى الله عليه و سلم ، و هي صحيحة .
و روى حذيفة مثل حديث أبي موسى ، وفيه ونبي الرحمة ، و نبي التوبة ونبي الملاحم .
و روى الحربي في حديثه صلى الله عليه و سلم أنه قال : (أتاني ملكٌ فقال لي : أنت قُثَمُ) أي مجتمِع . قال : و القَثوم : الجامع للخير ، و هذا اسم هو في أهل بيته معلوم .
و قد جاءت من ألقابه صلى الله عليه و سلم و سماته في القرآن عِدَّة كثيرة سوى ما ذكرناه ، كالنور ، و السراج المنير ، و المنذر و النذير ، و المبشِر و البشير ، و الشاهد و الشهيد ، و الحق المبين ، و خاتم النبيين ، و الرؤوف الرحيم ، و الأمين ، و قَدَم الصِّدق ، و رحمة للعالمين ، و نعمة الله و العُروة الوُثقى ، و الصراط المستقيم ، و النجم الثاقب و الكريم ، و النبي الأمي ، و داعيَّ الله , في أوصاف كثيرة ، و سمات جليلة .
و جرى منها في كتب الله المتقدمة ، و كتب أنبيائه ، و أحاديث رسوله ، و إطلاق الأمة جملة شافية ، كتسميته بالمصطفى ، و المجتبى ، و أبي القاسم ، و الحبيب ، و رسول رب العالمين، و الشفيع المشفَّع ، و المتَّقِي ، و المصلِح ، و الظاهر ، و المهيمن و الصادق ، و المصدوق ، و الهادي ، و سيد و لد آدم ، و سيد المرسلين ، و إمام المتقين ،و قائد الغر المحجلين ، و حبيب الله ،و خليل الرحمن ، و صاحب الحوض المورود ، و الشفاعة ،و المقام المحمود ، و صاحب الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة ، و صاحب التاج ، و المعراج ، و اللواء ، و القضيب ، و راكب البُراق و الناقة ، و النجيب ، و صاحب الحجة و السلطان ، و الخاتم ، و العلامة و البرهان ، و صاحب الهراوة و النعلين .
و من أسمائه في الكتب : المتوكل ، و المختار ، و مقيم السنة ، و المقدس , وروح القُدُس ، و روح الحق ، و هو معنى البارقليط في الإنجيل .
و قال ثعلب : البارقليط : الذي يفرق بين الحق و الباطل .
و من أسمائه في الكتب السالفة ، ماذ ماذ ، و معناه طيِّبٌ طيِّب ، و جِمَّاطايا* ،و الخاتم ، و الحاتم ، حكاه كعب الأحبار .
قال ثعلب : فالخاتم الذي ختم الله به الأنبياء . و الحاتم : أحسن الأنبياء خلقاً و خُلقاً .
و يسمى بالسريانية : مُشَقَّحٌ و الـمُنحَمِنَّا ، و اسمه في التوراة أُحْيِد , روي ذلك عن ابن سيرين .
و معنى صاحب القضيب ، أي السيف ، و قع ذلك مفسراً في الإنجيل ، قال : معه قضيب من حديد يقاتل به ، و أمته كذلك .
و قد يُحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه صلى الله عليه و سلم ، و هو الآن عند الخلفاء .
و أما الهراوة التي وُصف بها فهي في اللغة العصا ، و أراها ـ و الله أعلم ـ العصا المذكورة في حديث الحوض : (أذود الناس عنه بعصاي لأهل اليمن) .
و أما التاج فالمراد به العُمامة ، و لم تكن حينئذ إلا للعرب ، و العمائم تيجان العرب .
و أوصافه و ألقابه ، و سماته في الكتب كثيرة ، و فيما ذكرناه منها مُقنَعٌ إن شاء الله .
و كانت كنيته المشهورة أبا القاسم .
و روي عن أنس أنه لما وُلد إبراهيم جاءه جبريل فقال له : السلام عليك يا أبا إبراهيم .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جِمَّاطايا : قال ابو عمرو سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال معناه يحمي الحرم ويمنع من الحرام ويوطئ الحلال
صورة العضو الرمزية
بعد الزمن
مشاركات: 16470
اشترك في: الثلاثاء 2010.3.9 4:30 am
مكان: الضواحي

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة بعد الزمن »

متألق كالعادة الاخ طلال
مادة دسمه
ومفيدة للروح والعقل
جلها لله في ميزان جسناتك
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

بعد الزمن كتب:
متألق كالعادة الاخ طلال
مادة دسمه
ومفيدة للروح والعقل
جلها لله في ميزان جسناتك


اخي الغالي بعد الزمن
حمد لله على السلامة ومنور من جديد

تسلم كتير ورمضان كريم
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل


في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى و وصفه به من صفاتة العُلى
قال القاضي أبو الفضل وفقه الله تعالى : ما أحرى هذا الفصل بفصول الباب الأول ، لانخراطه في سلك مضمونها ، و امتزاجه بعذب معينها ، لكن لم يشرح الله الصدر للهداية إلى استنباطه ، و لا أنار الفكر لاستخراج جوهره و التقاطه إلا عند الخوض في الفصل الذي قبله ، فرأينا أن نضيفه إليه ، و نجمع به شمله .
فاعلم أن الله تعالى خص كثيراً من الأنبياء بكرامة خلعها عليهم من أسمائه ، كتسمية إسحاق ، و إسماعيل بعليم و حليم ، و إبراهيم بحليم ، و نوح بشكور ، و عيسى و يحيى بــبَرٍّ وموسى بكريم ، و قوي ، و يوسف بحفيظ عليم ، وأيوب بصابر ، و إسماعيل بصادق الوعد ، كما نطق بذلك الكتاب العزيز من مواضع ذكرهم .
و فضَّل نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم : بأن حلاَّه منها في كتابه العزيز ، و على ألسنة أنبيائه بِعِدَّةٍ كثيرة اجتمع لنا منها جملة بعد إعمال الفكر ، وإحضار الذكر ، إذ لم نجد من جمع منها فوق اسمين ، و لا من تفرغ فيها لتأليف فصلين .
و حررنا منها في هذا الفصل نحو ثلاثين اسماً ، و لعلَّ الله تعالى كما ألهم إلى ما عَلَّم منها و حققه يتم النعمة بإبانة ما لم يظهره لنا الآن ، ويفتح غَلَقَهُ .
فمن أسمائه تعالى : الحميد ، و معناه المحمود ، لأنه حمد نفسه ، و حمده عباده ، و يكون أيضاً بمعنى الحامد لنفسه و لأعمال الطاعات .
و سمى الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم محمداً ، و أحمد ، فمحمد بمعنى محمود ، و كذا وقع اسمه في زبور داود .
و أحمد بمعنى أكبرُ من حَمِدَ ، و أجلُّ من حُمِدَ ، و أشار إلى نحو هذا حسان(1) بقوله :
و شقَّ لهُ من اسمه ليُجِلَّهُ فذو العرش محمودٌ و هذا محمدُ
و من أسمائه تعالى : الرؤوف الرحيم ، و هما بمعنى متقارب . و قد سماه في كتابه بذلك ، فقال : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
و من أسمائه تعالى الحق المبين . و معنى الحق : الموجود ، و المتحقق أمره ، و كذلك المبين ، أي البين أمره و إلهِّيتُهُ .
بان و أبان بمعنى واحد , و يكون بمعنى المبيِّن لعباده أمر دينهم و مَعَادِهِم .
و سمى النبي صلى الله عليه و سلم بذلك في كتابه ، فقال : (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ)
و قال تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).
و قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ).
و قال : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) قيل : محمد . و قيل القرآن . و معناه هنا ضد الباطل ، و الـمُتحَقَّق صدقه و أمره ـ و هو بمعنى الأول .
و المبين : البيِّنُ أمره و رسالته ، أو الـمُبِين عن الله ما بعثه به ، كما قال تعالى : (لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
و من أسمائه تعالى : النور، و معناه ذو النور ، أي خالقه ، أو منوِّر السموات و الأرض بالأنوار ، ومنوِّر قلوب المؤمنين بالهداية .
وسماه نور اً ، فقال :( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) قيل محمد . و قيل القرآن .
و قال فيه : (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) سُمي بذلك لوضوح أمره ، و بيان نبوته ، و تنوير قلوب المؤمنين و العارفين بما جاء به .
و من أسمائه تعالى : الشهيد ، و معناه العالِـم . و قيل : الشاهد على عباده يوم القيامة .
وسماه شهيداً وشاهداً ، فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا).
و قال تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) و هو بمعنى الأول .
و من أسمائه تعالى : الكريم ، و معناه الكثير الخير .
و قيل : الـمُفضِل . و قيل العفو و قيل : العلي .
و في الحديث المروي في أسمائه تعالى : الأكرم .
وسماه تعالى كريماً بقوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) قيل : محمد . و قيل : جبريل .
و قال صلى الله عليه و سلم : (أنا أكرم ولد آدم) .
و معاني الاسم صحيحة في حقه صلى الله عليه و سلم .
و من أسمائه تعالى : العظيم ، و معناه الجليل الشأن ، الذي كل شيء دونه .
و قال في النبي صلى الله عليه و سلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
و وقع في أول سفر من التوراة ـ عن إسماعيل : وسيلد عظيماً لأمة عظيمة ، فهو عظيم و على خُلُق عظيم .
و من أسمائه تعالى : الجبار ، و معناه الـمُصلح ، و قيل القاهر . و قيل العلي العظيم الشأن . و قيل المتكبر .
وسُمي النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب داود بجبار ، فقال : تقلد أيها الجبار سيفك ، فإن ناموسك و شرائعك مقرونة بهيبة يمينك .
و معناه في حق النبي صلى الله عليه و سلم : إما لإصلاحه الأمة بالهداية و التعليم ، أو لقهره أعداءه ، أو لعلو منزلته على البشر ، و عظيم خطره .
و نفى عنه تعالى في القرآن جبرية التكبر التي لا تليق به ، فقال : (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) .
و من أسمائه تعالى : الخبير ، و معناه الـمُطَّلع بِكُنه الشيء ، العالم بحقيقته . و قيل معناه الـمُخبِر .
و قال الله تعالى : (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)
و قال القاضي بكر بن العلاء : المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه و سلم . و المسؤول الخبير هو النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال غيره : بل السائل النبي صلى الله عليه و سلم . و المسؤول هو الله تعالى ، فالنبي خبير بالوجهين المذكورين ، قيل : لأنه عالمٌ على غاية من العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه ، و عظيم معرفته ، مخبرا لأمته بما أُذن له في إعلامهم به .
و من أسمائه تعالى : الفتاح ، و معناه الحاكم بين عباده ، أو فاتح أبواب الرزق و الرحمة ، و الـمُنغَلِقِ من أمورهم عليهم ، أو يفتح قلوبهم و بصائرهم بمعرفة الحق ، و يكون أيضاً بمعنى الناصر ، كقوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، و قيل : معناه مُبتَدئ الفتح و النصر .
و سمى الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه و سلم بالفاتح في حديث الإسراء الطويل من رواية الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية و غيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، و فيه : من قول الله تعالى : (وجعلتك فاتحاً وخاتماً ) .
و فيه من قول النبي صلى الله عليه و سلم في ثنائه على ربه ، و تعديد مراتبه : (و رفع لي ذكري ، و جعلني فاتحاً و خاتماً ) ، فيكون الفاتح هنا بمعنى الحاكم ، أو الفاتح لأبواب الرحمة على أمته ، أو الفاتح لبصائرهم لمعرفة الحق و الإيمان بالله ، أو الناصر للحق ، أو المبتدي بهداية الأمة ، أو الـمُبَدَّي الـمُقَدَّم في الأنبياء و الخاتم لهم ، كما قال صلى الله عليه و سلم : (كنت أول الأنبياء في الخَلقِ ، و آخرهم في البعث) .
و من أسمائه تعالى في الحديث : الشكور ، و معناه الـمُثيب على العمل القليل , و قيل الـمُثني على المطيعين ، و وصف بذلك نبيه نوحاً عليه السلام فقال : (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا).
و قد وصف النبي صلى الله عليه و سلم نفسه بذلك ، فقال : (أفلا أكون عبداً شكوراً) أي معترفاً بنعيم ربي ، عارفاً بقدر ذلك ، مثنياً عليه ، مُجهداً نفسي في الزيادة من ذلك ، لقوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
و من أسمائه تعالى : العليم ، و العلَّام . و عالم الغيب و الشهادة .
و وصف نبيه صلى الله عليه و سلم بالعِلم ، و خصَّه بمزيَّة منه ، فقال تعالى : (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
و قال : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .
و من أسمائه تعالى : الأول ، و الآخر ، و معناهما السابق للأشياء قبل و جودها ، و الباقي بعد فنائها .
و تحقيقه أنه ليس له أول و لا آخر .
و قال صلى الله عليه و سلم : (كنتُ أول الأنبياء في الخَلق ، و آخرهم في البعث) . و فسر بهذا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) فقدَّم محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قد أشار إلى نحو منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
و منه قوله : (نحن الآخِرون السابقون) .
و قوله : (أنا أول من تنشق عنه الأرض ، و أول من يدخل الجنة ، و أول شافع ، و أول مشفع و هو خاتم النبيين) وهو خاتم النبيين و آخر الرسل صلى الله عليه و سلم .
و من أسمائه تعالى : القوي , و ذو القوة المتين ، و معناه : القادر .
و قد وصفه الله تعالى بذلك ، فقال : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) قيل محمد و قيل جبريل .
و من أسمائه تعالى : الصادق ، في الحديث المأثور و ورد في الحديث أيضاً اسمه صلى الله عليه و سلم بالصادق المصدوق .
و من أسمائه تعالى : الولي ، و المولى ، و معناهما : الناصر ، و قد قال الله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) .
و قال صلى الله عليه و سلم : (أنا وليُّ كل مؤمن) .
و قال الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
و قال صلى الله عليه و سلم : (من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه) .
و من أسمائه تعالى : العفو ، و معناه الصفوح .
و قد وصف الله تعالى بهذا نبيه في القرآن ، و التوراة ، و أمره بالعفو ، فقال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
و قال : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ).
و قال له جبريل و قد سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) ، قال : أن تعفو عمن ظلمك .
و قال في التوراة و الإنجيل في الحديث المشهور ، في صفته : ليس بفظ و لا غليظ ، و لكن يعفو و يصفح .
و من أسمائه تعالى : الهادي ، و هو بمعنى توفيق الله لمن أراد من عباده ، و بمعنى الدلالة و الدعاء . قال الله تعالى : (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
و قيل في تفسير طه إنه يا طاهر ، يا هادي ، يعني النبي صلى الله عليه و سلم . و قال الله تعالى له : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
و قال فيه : (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ).
فالله تعالى مختص بالمعنى الأول ، قال تعالى : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
و بمعنى الدلالة ينطلق على غيره تعالى .
و من أسمائه تعالى : المؤمن المهيمن ، قيل : هما بمعنى واحد ، فمعنى المؤمن في حقه تعالى : المصدِّقُ وعده عباده ، و المصدِّقُ قوله الحق ، و المصدِّق لعباده المؤمنين ورسله .
و قيل : المهيمن بمعنى الأمين ، مُصغَّر منه ، فقلبت الهمزة هاء .
و قد قيل : إن قولهم في الدعاء : آمين إنه اسم من أسماء الله تعالى ، و معناه معنى المؤمن .
و قيل : المهيمن بمعنى الشاهد و الحافظ .
و النبي صلى الله عليه و سلم أمين ، و مهيمن ، و مؤمن ، و قد سماه الله تعالى أميناً ، فقال : (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ).
و كان صلى الله عليه و سلم يُعرف بالأمين ، و شُهر به قبل النبوة و بعدها ، و سماه العباس ، في شعره مهيمناً في قوله:
ثم احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء تحتها النطق
قيل : المراد : يأيها المهيمن ، قاله القتيبي ، و الإمام أبو القاسم القشيري .
و قال تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق .
و قال صلى الله عليه و سلم : (أنا أمَنَةٌ لأصحابي) فهذا بمعنى المؤمن .
و من أسمائه تعالى : القدوس ، و معناه المنزَّه عن النقائص المطهَّر من سمات الحدث ، و سُمي بيت المقدس ، لأنه يُتطهر فيه من الذنوب ، و منه ، الوادي المقدس ، وروح القدس .
و وقع في كتب الأنبياء في أسمائه صلى الله عليه و سلم : المقدس ، أي المطهر من الذنوب ، كما قال تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
أو الذي يُتطهر به من الذنوب ، و يُــتنزه باتِّباعه عنه ، كما قال : (وَيُزَكِّيهِمْ) .
و قال تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
أو يكون مقدساً بمعنى مُطهراً ، من الأخلاق الذميمة و الأوصاف ا لدنية .
و من أسمائه تعالى : العزيز ، و معناه : الممتنع الغالب ، أو الذي لا نظير له ، أو المعز لغيره ، و قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) أي الامتناع و جلالة القدر .
و قد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة و النذارة ، فقال : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)

و سماه الله تعالى مبشراً، و نذيراً : أي مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته .
و من أسمائه تعالى فيما ذكره بعض المفسرين : طه ، و يس . و قد ذكر بعضهم أيضاً أنهما من أسماء محمد صلى الله عليه و سلم و شرَّف و كرَّم .






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسان : هو حسان بن ثابت الأنصاري عاش مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام وقد شاركه في العيش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام حكيم بن حزام
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل


في بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته
قال القاضي أبو الفضل وفقه الله تعالى : و ها أنا أذكر نُكتةً أُذيِّل بها هذا الفصل ، و أختم بها هذا القسم ، و أزيح الإشكال بها فيما تقدم عن كل ضعيف الوهم ، سقيم الفهم ، تُخلِّصه من مهاوي التشبيه ، و تزحزحه عن شُبه التمويه ، و هو أن يعتقد أن الله تعالى جلَّ اسمه في عظمته و كبريائه و ملكوته ، و حُسنى أسمائه ، و عليِّ صفاته ، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ، و لا يُشبَّه به ، و أن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق و على المخلوق ، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي ، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق ، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات كذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين ، إذ صفاتهم لا تنفك عن الأعراض و الأغراض ، و هو تعالى منزه عن ذلك ، بل لم يزل بصفاته و أسمائه ، و كفى في هذا قوله : (ليس كمثله شيء).
و لله درُّ من قال من العلماء العارفين المحققين : التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مُشْبِهة للذوات و لا مُعَطَّلة عن الصفات .
و زاد هذه النكتة الواسطي رحمه الله بياناً ، و هي مقصودنا ، فقال : ليس كذاته ذات ، و لا كأسمه اسم ، و لا كفعله فعل ، و لا كصفته صفة ، إلا من جهة موافقة اللفظ اللفظ ، و جلَّت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة ، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة .
و هذا كله مذهب أهل الحق و السنة و الجماعة رضي الله عنهم .
و قد فسر الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله ـ قوله هذا ، ليزيد بياناً ، فقال : هذه الحكاية تشتمل على جوامع مسائل التوحيد ، و كيف تُشْبِهُ ذاته ذات الـمُحدثات ، و هي بوجودها مستغنية ، و كيف يشبه فعلُهُ فعل الخلق ، و هو لغير جلب أُنس ، أو دفع نقص حصل ، و لا بخواطر و أغراض وُجِدَ ، و لا بمباشرة و معالجة ظَهَرَ ، و فعل الخلق لا يخرج عن هذه الوجوه .
و قال آخر من مشايخنا : ما توهمتموه بأوهامكم ، أو أدركتموه بعقولكم فهو محدث مثلكم .
و قال الإمام أبو المعالي الجويني : من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فِكْرُهُ ، فهو مُشَبِّهٌ ، و من اطمأن إلى النفي المحض فهو مُعَطِّل , و إن قطع بموجود اعتراف بالعجز عن درك حقيقته فهو مُوَحِّد .
و ما أحسن قول ذي النون المصري : حقيقة التوحيد أن تعلم أن قُدرة الله تعالى في الأشياء
بلا علاج ، وصُنعُهُ لها بلا مزاج ، وعِلَّة كل شيء صُنعُهُ ، و لا علَّة لصُنعِهِ ، و ما تُصُوِّر في وهمك فالله بخلافه .
و هذا كلام عجيب نفيس محقق ، و الفصلُ الآخر(1) تفسير لقوله : (ليس كمثله شيء).
و الثاني(2) تفسير لقوله : (لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون) و الثالث (3) تفسير لقوله : (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون).
ثبتنا الله و إياك على التوحيد و الإثبات ، و التنزيه ، و جنبنا طرفي الضلالة و الغواية من التعطيل و التشبيه بمنِّه ورحمته .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفصل الأخر : هو قوله وما يصور في وهمك .....
(2) والثاني : هو قوله علة كل شي صنعه ولا علة ...
والثالث : قوله أن يعلم أن قدر الله في الأشياء بلا علاج وصنعه بلا مزاج
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

الباب الرابع



فيما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات و شرفه به من الخصائص و الكرامات
قال القاضي أبو الفضل : حَسْبُ المتأمل أن يُحَقِّقَ أن كتابنا هذا لم نجمعه لـمُنكر نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لا لطاعِن في معجزاته ، فنحتاج إلى نَصْبِ البراهين عليها ، وتحصين حَوْزَتها ، حتى لا يتوصل الـمُطاعن إليها ، و نذكر شروط الـمُعجِز و التحدي وحده ، و فساد قول من أبطل نسخ الشرائع وَرَدَّهُ ، بل ألَّفناه لأهل مِلته ، الملبين لدعوته ، المصدقين لنبوته ، ليكون تأكيداً في محبتهم له ، و منماةً لأعمالهم ، و (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) .
و نيَّتُنا أن نُـثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ، و مشاهير آياته ، لتدل على عظيم قدره عند ربه . و أتينا منها بالمحقق و الصحيح الإسناد ، و أكثره مما بلغ القطع ، أو كاد ، و أضفنا إليها بعض ما وقع في مشاهير كتب الأئمة .
و إذا تأمل المتأمل الـمُنصف ما قدمناه من جميل أثره ، و حميد سِيَرِه ، و براعة عِلمه ، ورجاحة عقله و حلمه ، و جُملة كماله ، و جميع خصاله ، و شاهد حاله ، و صواب مقاله, لم يَـمْتَر في صحة نبوته ، و صدق دعوته .
و قد كفى هذا غير واحد في إسلامه و الإيمان به .
فروينا عن الترمذي ، و ابن قانع وغيرهما بأسانيدهم ـ أن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جئتُهُ لأنظر إليه ، فلما استبنتُ وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب .
و عن أبي رمثة التيمي : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ، و معي ابنٌ لي ، فأريته ، فلما رأيته قلت : هذا نبي الله .
و روى مسلم و غيره أن ضِماداً(1) لما وفد عليه ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً عبده ورسوله)
قال له : أعِد عليَّ كلماتك هؤلاء ، فلقد بلغن قاموس البحر (2) هات يدك أبايعك .
و في خبر الجلندي ملك عمان لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام ـ قال الجلندي : و الله ، لقد دلَّني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، و لا ينهي عن شيء إلا كان أول تارك له ، و أنه يَغلب فلا يَبطرُ و يُغلب فلا يضجر ، و يفي بالعهد ، و ينجز الموعود ، و أشهد أنه نبي .
و قال نفطويه في قوله تعالى : (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ) : هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ، يقول : يكاد منظره يدل على نبوته و إن لم يَتلُ قرآناً كما قال ابن رواحة :
لو لم تكن فيه آياتٌ مُبَيِّنةٌ .... لكان منظرُهُ يُنبيك بالخَبرِ
و قد آن أن نأخذ في ذكر النبوة و الوحي و الرسالة ، و بعده في معجزة القرآن ، و ما فيه من برهان و دلالة .






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ضماد : هو ابن ثعلبة الأزدي ,أزد شنوءة , كان صديقا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة , أسلم أول الإسلام وكان يتطبب ويُرقي ويطلب العلم
(2) قاموس البحر : وسط البحر او قراره , والمراد هنا أن كلماتك بلغت عمقه ولجته الداخلة
صورة العضو الرمزية
طلال الحكيم
مشاركات: 4056
اشترك في: السبت 2010.5.8 11:08 am
مكان: السعودية

رد: الشذى العباق ودوحة الأشواق

مشاركة بواسطة طلال الحكيم »

فصل



في أن الله قادرٌ على خلق المعرفة في قلوب عباده
اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده ، و العلم بذاته و أسمائه و صفاته و جميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ، كما حُكي عن سنته في بعض الأنبياء ، و ذكره بعض أهل التفسير في قوله :( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا)
و جائزٌ أن يُوصِل إليهم جميع ذلك بواسطة تُبَلِّغُهُم كلامه ، و تكون تلك الواسطة ، إما من غير البشر ، كالملائكة مع الأنبياء أو من جنسهم ، كالأنبياء مع الأمم ، و لا مانع لهذا من دليل العقل .
و إذا جاز هذا و لم يستحِل ، و جاءت الرسل بما دلَّ على صدقهم من معجزاتهم وجب تصديقهم في جميع ما أتوا به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي صلى الله عليه و سلم قائم مقام قول الله : صدق عبدي فأطيعوه و اتبعوه ، و شاهد على صدقه فيما يقوله ، و هذا كاف .
و التطويل فيه خارج عن الغَرَض ، فمن أراد تتبُّعه وجده مستوفي في مصنفات أئمتنا رحمهم الله .
فالنبوة في لغة من همز ( من همز يعني نطقها _النبوءة_ بالهمزة ) مأخوذة من النبأ ، و هو الخبر ، و قد لا تهمز على هذا التأويل تسهيلاً .
و المعنى أن الله تعالى أطلعه على غيبه ، و أعلمه أنه نبيُّهُ ، فيكون نبيٌّ مُنبَّأ , أو يكون مخبراً عما بعثه الله تعالى به ، و منبئاً بما أطلعه الله عليه.
و يكون عند من لم يهمزه من النبوة ، و هو ما ارتفع من الأرض ، و معناه أن له رتبة شريفة ، و مكانة نبيهة عند مولاه منيفة ، فالوصفان في حقه مُؤتلفان .
و أما الرسول فهو الـمُرسل ، و إرساله أمر الله له بالإبلاغ إلى من أرسله إليه ، و اشتقاقه من التتابع ، و منه قولهم : جاء الناس أرسالاً ، إذا تبع بعضهم بعضاً ، فكأنه ألزم تكرير التبليغ ، أو أُلِزمت الأمة إتِّباعه .
و اختلف العلماء : هل النبي و الرسول بمعنى ، أو بمعنيين ؟ فقيل : هما سواء ، و أصله من الإنباء و هو الإعلام ، و استدلوا بقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) فقد أثبت لهما معاً الإرسال
قال : و لا يكون النبي إلا رسولاً ، و لا الرسول إلا نبياً .
و قيل : هما مفترقان من وجه ، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاَّع على الغيب و الإعلام بخواص النبوة أو الرفعة لمعرفة ذلك ، و حوز درجتها ، و افترقا في زيادة الرسالة للرسول ، و هو الأمر بالإنذار و الإعِلام كما قلنا .
و حجتهم من الآية نفسها التفريق بين الإسمين ، و لو كانا شيئاً واحداً لما حُسن تكرارهما في الكلام البليغ ، قالوا : و المعنى : ما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي ليس بمرسل إلى أحد .
و قد ذهب بعضهم إلى أن الرسول من جاء بشٍرع مُبتدأ ، و من لم يأت به نبي غير رسول ، و إن أمر بالإبلاغ و الإنذار .
و الصحيح ، و الذي عليه الجَمَّاءُ الغفير(ا) أن كل رسول نبي ، و ليس كل نبي رسولاً .
و أول الرسل آدم ، و آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم .
و في حديث أبي ذر رضي الله عنه : إن الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألف نبي .
و ذكر أن الرسل ، منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر ، أولهم آدم عليه السلام .
فقد بان لك معنى النبوة و الرسالة
و أما الوحيُ فأصله الإسراع ، فلما كان النبي يتلقَّى ما يأتيه من ربه بِعَجَلٍ سُمي وحياً ، و سُميت أنواع الإلهامات وحياً ، تشبيهاً بالوحي إلى النبي ، و سُمي الخطُّ وحياً ، لسرعة حركة يد كاتِبه ، و وحي الحاجب و اللحظ سرعة إشارتهما و منه قوله تعالى : (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي أومأ و رمز . و قيل : كَتَب , و منه قولهم : الوحا الوحا ، أي السُرعة السُرعة .
و قيل أصل الوحي السِّر و الإخفاء ، و منه سُمي الإلهام وحياً ، و منه : (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) أي يوسوسون في صدروهم ، و منه قوله : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) أي أُلقيَّ في قلبها .
و قد قيل ذلك في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا) أي ما يُلقيه في قلبه دون واسطة .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجَمَّاءُ الغفير : بمعنى : الجمع الغفير
أضف رد جديد

العودة إلى ”قطاف إسلامية“