في الشجاعة و النجدة
و أما الشجاعة و النجدة (1) :
فالشجاعة فضيلة قوة الغضب و انقيادها للعقل . و النجدة : ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يُحمدُ فعلها دون خوف .
و كان صلى الله عليه و سلم منهما بالمكان الذي لا يُجهل ، قد حضر المواقف الصعبة ، و فرَّ الكُماةُ (2) و الأبطال عنه غير مرة ، و هو ثابت لا يبرح ، و مُقبلٌ لا يُدبِر و لا يتزحزح .
و ما شجاع إلا و قد أُحصيت له فرَّة ، و حُفظت عنه جولة(3) ، سواه .
حدثنا شعبة ، عن أبي اسحاق : سمع البراء و سأله رجل : أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفر .
ثم قال : لقد رأيته على بغلته البيضاء (4) و أبو سفيان آخذ بلجامها ، و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أنا النبي لا كذب ، و زاده غيره : أنا ابن عبد المطلب .
قيل : فما رُئي يومئذ أحد كان أشد منه .
و قال غيره : نزل النبي صلى الله عليه و سلم عن بغلته .
و ذكر مسلم ـ عن العباس ، قال : فلما التقى المسلمون و الكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يركض بغلته نحو الكفار ، و أنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع ، و أبو سفيان آخذ بركابه ، ثم نادى : يا للمسلمين ... الحديث .
و قيل : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غضب _ و لا يغضب إلا لله _لم يقم لغضبه شيء .
و قال : ابن عمر : ما رأيت أشجع ، ولا أنجد ، ولا أجود ، و لا أرضى ، و لا أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال علي رضي الله عنه : إنا كنا إذا حمي البأس _ و يُروى : اشتد البأس _ و احمرَّت الحَدَق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه و لقد رأيتُني يوم بدر و نحن نلوذُ بالنبي صلى الله عليه و سلم ، و هو أقربنا إلى العدو و كان من أشد الناس يومئذ بأساً .
و قيل : كان الشجاع هو الذي يقترب منه صلى الله عليه و سلم إذا دنا العدو ، لقربه منه .
عن أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم أحسن الناس ، و أجود الناس ، و أشجع الناس ، لقد فزع أهل المدينة ليلة ، فانطلق ناس قِبَل الصوت ، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعاً ، قد سبقهم إلى الصوت ، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُري ، و السيف في عنقه ، و هو يقول : (لن تراعوا) .
و قال عمران بن حصين : ما لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم كتيبة إلا كان أول من يضرب . و لما رآه أبي بن خلف يوم أحد و هو يقول : أين محمد ، لا نجوت إن نجا .
و قد كان يقول للنبي صلى الله عليه و سلم ـ حين افتدى(5) يوم بدر : عندي فرس أعلفها كل يوم فَرَقاً (6) من ذُرة أقتلك عليها .
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : (أنا أقتلك إن شاء الله) .
فلما رآه يوم أحُد شد أُبي على فرسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاعترضه رجال من المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم هكذا ، أي خلوا طريقه و تناول الحربة من الحارث بن الصمة ، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشَّعرَاء (7) عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله النبي صلى الله عليه و سلم ، فطعنه في عنقه طعنة تَدَأدَأ (8) منها عن فرسه مِراراً .
و قيل : بل كسر ضلعاً من أضلاعه ، فرجع إلى قريش يقول : قتلني محمد ، و هم يقولون لا بأس بك . فقال : لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم ، أليس قد قال : (أنا أقتلك) و الله لو بصق عليَّ لقتلني , فمات بِسَرِفَ في قفولهم (9) إلى مكة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النجدة : في اللغة الشجاعة وفي الحقيقة ما ذكره القاضي رحمه الله
(2) الكُماةُ : جمع كميّ وهو الشجاع المتكمي في سلاحه أي المستتر فيه
(3) جولة : نفور وزوال عن الموقف
(4)بغلته البيضاء : كان صلى الله عليه وسلم يُسمي بغلته (الدلدل)
(5) افتدى : أي أعطى الجزية .
(6) فَرَقا : الفرق يسع ستة عشر رطلا وهو أثنا عشر مداً أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز .
(7) تطاير الشَّعرَاء : هو ذباب أحمر يقع على الإبل .. وفي كتاب البداية و النهاية .. أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل أبي بن خلف تطاير الناس عنه تطاير الشعر عن البعير
(8) تَدَأدَأ : أي تدحرج
(9) قفولهم : أي رجوعهم .